فقيه بارز في القرن الخامس للهجري هو الشيخ محمد بن الحسن الطوسي (350-460 ه) يُطلق عليه لقب "شيخ الطائفة" أي الطائفة الإمامية ، وهو الذي أسَّس الحوزة العلمية في النجف الأشرف بعد أن غادر بغداد بسبب فتنةٍ طائفية أورى نارها "السلجوقيون" سنة 448 ه.. – والجدير ذكره أنَّ الشيخ الطوسي كان شافعياً على مذهب أهل الجماعة ، ويذكر الكاتب "رشيد الخيُّون في كتابه المشروطة والمستبدة (أنَّ أبا جعفر الطوسي مؤسِّس الحوزة الدينية بالنجف العام 448ه وأستاذها في بغداد شافعياً ، ومن الوارد آنذاك أن يكون أشعريَّاً أيضاً ، وليست الغرابة أن يتحول الطوسي من الشافعية والسلفية إلى التشيُّع ولكن الغرابة أن يتشيَّع ويصبح المرجع الأول ، ونقرأ في سيرته عند صاحب "الطبقات
الكبرى" : "فقيه الشيعة ومصنِّفهم " كان ينتمي إلى المذهب الشافعي) – لا شك بأنَّ الشيخ الطوسي كان عالماً ومحقِّقاً ومبدعاً ، ويملك معرفة فرضت سلطانها واحتكاريتها على المجال الفقهي الشيعي ، وأصبحت مصنفاته مسلكاً عاماً وطاغياً في الأنشطة الفقهية ، حتى كاد ينسد باب الإجتهاد عند الشيعة بسبب مكانته العلمية ، وانصهرت الحوزة إنصهاراً مستحوذاً على العقول وأنستهم نفوسهم أقلام الحبر في القول والتدارك والتساؤل، ولا داعي للتفكر ما دام شيخ الطائفة يتحدَّث ويُفتي في علوم المعارف ، فاستأثر في عقل الحوزة وعقول الناس كافة على مستوى الطائفة ، فسدَّ عليها منافذ التفكيرفي نقدها ما يقارب قرناً ونيِّف...واستمرت هذه الحالة عند الشيعة إلى ما بعد وفاة الطوسي ، ولم يتجرَّأ
أحد من فقهاء الحوزة أن يعطي رأياً مخالفاً ، وبقي هذا الجمود حتى جاء العالم الكبير "محمد بن إدريس الحلي (543-598ه)" وفتح باب الرد على نظريات الطوسي ومع ذلك فقد بقوا على تلك الحالة ولم يعتبر رأي الحلي معتداً به ، ولا يعدو رأي شيخ الطائفة، ولذلك سميت أراء إبن ادريس ومن وافقه بالأراء الشاذة..من هنا يمكن أن نسلِّط الضوء على مسألة الجمود التي استمرت القرن والنصف تقريباً ، هل سببه السطوة العلمية عند الطوسي ، أم أنَّ هناك أسباب أخرى؟
وخصوصاً بعدما منحه الخليفة العباسي "القائم بأمر الله عبدالله بن القادر" كرسيَّ الكلام والإفادة ، وكان تحت كرسي الطوسي مئات العلماء من السّنَّة والشيعة – وهذا رد على القائلين بإقصاء فقهاء الشيعة عن ممارسة أدوارهم تحت سقف الخلافة الإسلامية – ويبدو أنَّ كثيراً من شواهد التاريخ حول القمع السُنِّي للشيعة مختلقاً وليس دقيقاً ، ومهمته هو إيجاد الفرقة بين المسلمين ، والإختلاف الجذري بينهم ، وقد تأسَّس على ظهر هذه المقولات التاريخية حول تعسُّف السُنَّة بالشيعة فتنٌ وصلت إلى حد الإقتتال الدموي وها نحن الآن نشهد فضاعة جديدة ومحنة جديدة من محن العلاقات السنيَّة الشيعية بعدما أخذت حربي سوريا والعراق منحاً طائفيَّا ومذهبيَّاً أوجد تصدعاً كبيراً بين أهل السنة والجماعة وبين الشيعة...ولهذا يبدو أنَّ التاريخ قد تُلِيَ علينا بطريقةٍ مذهبيةٍ لشحن النفوس وتعبئتها ، لخوض حروب طائفية ومذهبية لن ينجو منها أحد ولن ينتصر فيها أحد..