يترافق القلق المتزايد والتنسيق المبعثر على إيقاع المفاوضات النووية بين الولايات المتحدة والجمهورية الإسلامية الإيرانية في اطار 5+1 التي يُفترض أن تصل نقطةَ الحسم في 24 آذار (مارس) الجاري. وسواء فشلت أو نجحت، فقد هزّت هذه المفاوضات علاقات تاريخية واستراتيجية بين الولايات المتحدة وأصدقائها –في البدء عند الكشف عن إجرائها بسرية كاملة والآن لدى وصولها مرحلة التنازلات الكبرى-. المواجهة العسكرية فور الفشل مستبعَدة، ولا حاجة إليها لأن الأجدى في المواجهة مع إيران في هذا الوقت هو تضييق الخناق الاقتصادي عليها عبر العقوبات وشل قدراتها العسكرية وطموحاتها الإقليمية الممتدة كالأخطبوط من العراق إلى سورية إلى اليمن وكذلك لبنان. ففشل المفاوضات النووية أكثر كلفة على أقطاب الحكم في طهران الذين هم في أشد الحاجة إلى رفع العقوبات الاقتصادية المفروضة –سيما الأميركية– كي يتمكنوا من تنفيذ استراتيجيتهم الإقليمية. والفشل سيكون مكلفاً سياسياً للرئيس باراك أوباما الذي ربط تركته التاريخية بإنجاز اتفاق مع طهران. أما تتويج المفاوضات النووية بالإقرار الدولي بحق إيران بالاحتفاظ بالقدرات النووية الجاهزة لتصنيع السلاح النووي مع تأجيل التنفيذ، فهذا سيصب أولاً في مصلحة الصناعات النووية العالمية، لأن السباق النووي آتٍ حتماً إلى الشرق الأوسط نتيجة ذلك النجاح في المفاوضات. وسيصب بالتأكيد بالقدر نفسه –وأكثر– في مصلحة حكم الملالي في طهران، بغض النظر عن إن كانوا من صفوف الاعتدال أو التطرف. والمستفيد الأكبر سيكون بالتأكيد «الحرس الثوري» بقيادة قاسم سليماني وهو يصعّد المعارك في البلدان العربية ليرسّخ السيطرة الإيرانية الإقليمية تارة باسم مكافحة التكفيريين وسحق «داعش»، وتارة تأكيداً على أهمية العمق الاستراتيجي لإيران في العراق وسورية ولبنان، وكذلك اليمن. إسرائيل غاضبة إزاء ما لديها من معلومات بأن الولايات المتحدة على وشك تقديم تنازلات ضخمة إلى إيران في «اتفاق سيئ» له تداعياته على إسرائيل والشرق الأوسط. الدول العربية قلقة لأن واشنطن ضربت بعرض الحائط كل محاولاتها أن تكون طرفاً مطلعاً على المفاوضات النووية مع إيران، بل إن واشنطن ضللت عمداً هذه الدول الصديقة عندما أبعدتها عن المفاوضات السرية في حديقتها الخلفية في عُمان. تركيا تدرس خياراتها المحصورة بين تقزيم عنفوانها نتيجة حصول إيران على القدرات النووية بعد باكستان وبين تقييد تحالفاتها نتيجة تبنّيها «الإخوان المسلمين» الأمر الذي يضعها في عداء مع مصر وتوتر مع عدد من الدول الخليجية. أما «داعش»، فقد لعب أهم الأدوار، لأنه حشد القيادات العربية في تحالف ضده، ونُصِبَ أولوية قاطعة حوّلت الأنظار بعيداً من التعمق والتنبه للبعد الأميركي– الإيراني وللمفاوضات النووية وإفرازاتها وبات أداة إلهاء.
في الذهن الأميركي بصورة عامة، دخلت إيران شريكاً ضرورياً للولايات المتحدة للقضاء على العدو الأول الجديد، ولا مانع أن تتوغل القوات التابعة لـ «الحرس الثوري» الإيراني في العراق أو سورية طالما تساعد في سحق العملاق اليافع المسمى «داعش». كان الأميركيون عامة في كراهية وتشكيك ولوم السُنَّة بسبب إرهاب 9/11 ضدهم ثم جاء «داعش» في السنوات القليلة الأخيرة ليعزز تلك الكراهية ويعمّق العداء الأميركي للسُنَّة الذين قدمهم «داعش» إعلامياً طغاة دمويين فوق العادة.
منذ شهرين أو ثلاثة حاولت مجموعة من الأميركيين –من بينهم عسكريون متقاعدون وجمهوريون يعارضون اندفاع الرئيس أوباما إلى إرضاء إيران– إبراز الأدوار الإيرانية ضد المواطنين الأميركيين، مشيرة إلى أن أكبر عدد من القتلى الأميركيين أتى على أيدي إيران في لبنان والخُبر وفي حرب العراق وفي عمليات إرهابية رعتها إيران. خرجت هذه المجموعة إلى الإعلام الأميركي لتشرح للرأي العام الأميركي تاريخ العلاقة الأميركية– الإيرانية لإصلاح الانطباع بأن العدو القاطع الوحيد هو السُنَّة العرب.
فلقد نسي الأميركيون رهائنهم لـ444 يوماً في طهران عندما استولت الثورة الإيرانية على الحكم عام 1979 وأتت بالملالي في «ثيوقراطية» جديدة من نوعها على الشرق الأوسط. واليوم تركّز النخبة الأميركية –بالذات في الإعلام ودوائر صنع السياسة– على دعم الاتفاق مع إيران تحت أي ظرف كان وبتجاهل متعمد لأدوار إيران في الدول العربية وطموحاتها الإقليمية. وفيما بالأمس القريب دعم الأميركيون قرار منع العراق بتاتاً وبأية سبل من امتلاك أي قدرة نووية حتى ولو كانت في عقول العلماء، هم اليوم يتحدثون بلغة حتمية وضرورة الإقرار بأن إيران أصبحت دولة نووية لن يمكن إيقافها لأنه لا يمكن قتل عقول العلماء.
الرئيس أوباما يراهن في علاقاته مع إيران على رغبة الأكثرية الأميركية عدم الخوض في حروب جديدة واستعدادها لمصالحة تاريخية مع إيران بعد انقطاع العلاقة لأكثر من 35 سنة. لذلك ركّز حصراً على المفاوضات النووية، وغضّ النظر عمداً عن التوغّل الإيراني في العراق وسورية واليمن ولبنان، ودخل في مواجهة ديبلوماسية وسياسية مع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو في عقر دار الكونغرس الأميركي في سابقة لها تداعياتها.
معظم الرأي العام الأميركي لا يرضى أن تقوم إسرائيل بتوريط الولايات المتحدة عبر جرّها إلى عمليات عسكرية ضد إيران. وهذا الجزء من الرأي العام لا يثق بنتانياهو ولا بقدرته على المواجهة العسكرية بمفرده مع إيران. ولذلك يعارض مواقفه نحو المفاوضات النووية ويحتج على تحريضه للكونغرس الجمهوري ليثور على الرئيس الديموقراطي. هذا الشطر من الرأي العام الأميركي يريد التطبيع مع إيران بالدرجة الأولى ويعتقد أن الاتفاقية النووية ستكبّل قدرات إيران النووية وأن عدم الاتفاق سيؤدي إلى امتلاكها السلاح النووي بلا رقابة.
ما فعله بنيامين نتانياهو عندما خاطب الكونغرس الأميركي هذا الأسبوع هو أنه تحدى باراك أوباما إلى الكف عن إقصاء الطموحات والأدوار الإيرانية الإقليمية عمداً من الصفقة الوشيكة مع إيران كي لا تنهار الصفقة. تحدي بنيامين نتانياهو أثار غضب أوباما وترك ملامحه ظاهرة على وجهه وتعابيره. فتلك كانت استراتيجية جريئة في نظر البعض، ووقحة في نظر البعض الآخر، قوامها فضح الرئيس الأميركي أمام الكونغرس والرأي العام الأميركي، فما لم يجرؤ آخرون –أميركيون وعرب– على القيام به، غامر به نتانياهو وغامر بمستقبله السياسي معه عشية الانتخابات الإسرائيلية.
لن تتوقف المفاوضات النووية بسبب خطاب نتانياهو في الكونغرس، ولن تفشل الصفقة لأنه عارضها، فإذا فشلت فبسبب الفجوة التي ما زالت قائمة وتتعلق بمفهوم إدارة أوباما للاتفاق النووي والقيود على قدرات إيران النووية مقابل مفهوم النظام في طهران لرفع العقوبات عن إيران.
الرئيس أوباما قادر على إبعاد الاتفاق مع إيران من أنياب الكونغرس الجمهوري. وهو قادر على توقيع الاتفاقية من دون مصادقة الكونغرس عليها. له الحق في ممارسة النقض (فيتو) على أي عقوبات جديدة يقترحها الكونغرس، إذا شاء استخدام ذلك الحق.
ما ليس في قدرة باراك أوباما هو تماماً ما تصرّ عليه إيران، أي رفع العقوبات التي فرضها الكونغرس بصورة نهائية تماماً. فهذا ليس في يد الرئيس الأميركي، سيما أنه في معركة مع الكونغرس الجمهوري وليس في وئام ووفاق معه. طهران لا تريد الاكتفاء باتفاق مع رئيس باقٍ في البيت الأبيض لسنتين فقط. ما تريده هو ما يملكه الكونغرس. وهذه إحدى النقاط التي تهدد الاتفاق.
الأجواء العامة تفيد بأن المفاوضات متجهة إلى الانتهاء باتفاق لكن هذا الاستنتاج ما زال سابقاً لأوانه. على أي حال، تسوّق الإدارة الأميركية أجواء الاتفاق وتأتي زيارة وزير الخارجية جون كيري إلى السعودية ولقاؤه وزراء دول مجلس التعاون الخليجي في هذا السياق.
حمل كيري معه كرّاس الطمأنة ليقول لهذه الدول إن الصفقة لن تسمح لإيران باقتناء السلاح النووي ولن تعني مباركة الولايات المتحدة للأدوار الإيرانية في اليمن والعراق وسورية ولبنان، والأرجح أن لا أحد من نظرائه صدّقه. حمل كيري إلى الوزراء الخليجيين وعداً أميركياً بالاستمرار في مواجهة التوسّع الإيراني في المنطقة، ولا بد أن الوزراء غمز بعضهم بعضاً لدى سماع كلمة «الاستمرار» في مواجهة التوسّع الإيراني. بكلام آخر، ما حمله كيري إلى الرياض أتى متأخراً إذا كان القصد منه الطمأنة.
لعل هدف زيارة كيري هو إبلاغ القادة الخليجيين أن الرئيس أوباما عازم على توقيع الصفقة مع إيران ويتمنى عليهم الخضوع أمام الأمر الواقع. ولعل الهدف هو الاتفاق على استراتيجية في حال نجاح المفاوضات وأخرى في حال فشلها.
تدرك الدول الخليجية أن الصفقة الأميركية– الإيرانية لن تكون نووية حصراً بل سترسّخ سياسة غض النظر عن الممارسات والسياسات والطموحات الإقليمية لإيران التي تبنتها إدارة أوباما، وهذا سيزيد من قدرات إيران على التوسع والهيمنة على المنطقة العربية عبر البوابة العراقية والسورية واليمنية واللبنانية وغيرها من البوابات المفتوحة أمامها.
تدرك هذه الدول –كما تدرك الولايات المتحدة– أن هذا التطوّر سيكبلها أكثر فأكثر ما لم تتبنَّ استراتيجيات غير معهودة وتدخل في سباق نووي يفيد الصناعات النووية ويساهم في إفقار المنطقة العربية، لأن الأموال –مرة أخرى– ستُنفق على السلاح بدلاً من إنفاقها على التطوير والتحديث لكامل المنطقة العربية.
أما في حال الفشل في التوصل إلى الصفقة التي يريدها أوباما مع إيران، فالاستراتيجية التي ستسوقها إدارة أوباما حينذاك –رغماً عنها– هي تقليم أظافر الأخطبوط الإيراني، بدءاً بسورية والعراق وانتهاء باليمن ولبنان.
بضعة أسابيع فقط وستتوضح إما معالم الصفقة وإفرازاتها أو اللااتفاق وتداعياته الإقليمية.