اعتاد رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، في الفترة الأخيرة، "توجيه الدعوات" إلى يهود أوروبا، للهجرة إلى "أرض الميعاد" في فلسطين المحتلة. يريد الاستفادة، إلى أقصى حدّ، من الاعتداءات الأخيرة في فرنسا والدنمارك، لترسيخ مفهوم إسرائيل، دولة وحيدة حامية للشعب اليهودي. قد يكون حلماً قديماً لنتنياهو، في أن يكون الرجل الذي نجح في تحقيق مسعى تيودور هرتزل، القاضي بإنشاء "وطن قومي لليهود". كما يصحّ القول إن "الدعوة" قد لا تكون سوى مجرّد شعار سياسي، لشخص يطمح في ضرب خصومه بفكرة يمينية بحتة. لا يبالي رئيس حزب الليكود ما إذا سرقت زوجته زجاجات فارغة، أو اتُهم شخصياً بالفساد، الأهم أن يواجه متحدّيه في انتخابات الكنيست، المقررة في 17 مارس/آذار المقبل، بعنوان "التشدد القومي"، لعبته الأحبّ. لكن، ما يريد نتنياهو ترسيخه فعلاً، عن إدراك أو عن جهلٍ، هو تكريس مبدأ "يهودية الدولة" في اللاوعي المجتمعي العالمي، خصوصاً حين يتوجّه باللغة الإنكليزية إلى القنوات الأجنبية. تلبّس نتنياهو شخصية جوزيف غوبلز، وزير الدعاية في حكومة الزعيم النازي أدولف هتلر، من ناحية تكرار مصطلحات معيّنة. يبدو ذلك أمراً أسوأ بكثير من مجرّد "دعوة" ليهودٍ للهجرة إلى فلسطين المحتلة، بل امّحاءً تامّاً لحق فلسطيني شرعي في الأرض، قبل أي مفاوضات مستقبلية، وخلال أي انتخابات إسرائيلية، ورغماً عن أي رئيس أميركي. ويظهر أنه حقق "نجاحات" مهمة في هذا الصدد، وسط تشتت عربيّ جماعي. مع ذلك، وبمعزل عما يجري في أوروبا، وعن "الأبعاد الدينية لضرورة الهجرة اليهودية إلى فلسطين"، بحسب المفاهيم التوراتية والتلمودية، فقد أثبتت واقعية الشرق أنها لا تحمل الكثير من رفاهية "الهجرة إليه"، مهما كانت مسبباتها في الغرب. أقلّه حتى الآن. الهجرة نحو بلاد مغيب الشمس أقوى مما سبق. القوارب والزوارق تشهد على موت أعداد هائلة من البشر كل أسبوع. مئات اللاجئين الهاربين من سورية وفلسطين وإفريقيا يموتون مرتين، مرة على أيدي مهرّبيهم الذين يعدونهم بالعيش الرغد في القارة العجوز، ومرة حين يُمسون جثثاً هامدة في بحرٍ لا يرحم. لم يعد البحر الأبيض المتوسط مجرّد شاهد على حضارات إغريقية ورومانية متعاقبة، بل بات المقبرة الكبرى للهاربين من الموت إلى الموت. أما بالنسبة إلى مكاتب الأمم المتحدة المنتشرة في عواصم في الشرق الأوسط، فقد أضحت شاهدة على أطنان من طلبات اللجوء الإنساني أو السياسي، المتراكم بشكل مخيف. ويترافق ذلك كله مع تحوّل السفارات الغربية في تلك العواصم، إلى نسخة عن مبانٍ حكومية محلية، لكثرة الوافدين يومياً إليها. ليس الشرق جنّة في الوقت الحالي، وفقاً لما تُظهره الأحداث المتلاحقة، بل فقط "محطة ضرورية" للانتقال من حياة إلى أخرى، بالنسبة لمعظم سكانه. في الواقع، لم تعد الهجرة لأسباب غير اقتصادية جاذبة. الأيديولوجيات والقوميات ليست عنصراً تحفيزياً لمن يرغب في أمرين: شبكة الأمان الاجتماعي والحرية الشخصية. الأولوية دائماً للدولة القادرة على تأمين الحاجات الإنسانية الأساسية، لا الدولة التي تجعل الإنسان رقماً في تركيبتها، من دون الالتفات إلى الحدّ الأدنى لمتطلباته، تحت شعار "القضية أولاً". ولّى ذلك الزمن، فأولويات الإنسان الخاصة هي ما تجعله يسعى إلى حماية دولة، يراها قادرة على تحقيق متطلباته. يدرك نتنياهو ذلك، ويعلم أن انهياراً اقتصادياً ما ليس وارداً في أوروبا في الوقت الحالي، من أجل دفع يهودها إلى الانتقال إلى المستوطنات الإسرائيلية. كما أن المخاطر الأمنية ليست بالخطورة التي يريد إظهارها على اليهود، بل تطال الجميع. يمكنه سؤال الشرطي الفرنسي، الذي قُتل في أثناء الاعتداء على مكاتب صحيفة شارلي إيبدو، أو سؤال الناجين من الاعتداء على المتجر اليهودي في باريس، عن منقذهم. بالتأكيد، لن يسأل.
الكاتب بيارعقيقي