لمكافحة الإرهاب تقنيّة خاصة، لكنّ دعوات البعض إلى التخلّص من أسباب نموّه قبل استعمال القوّة، تصلح في عصر غير عصرنا الحالي، حيث يُذبح الإنسان كالخراف، ويحرق بطريقة بربريّة، وإذا انتظرنا الحلّ الإقتصادي والتعليمي والديني، وتغاضَينا عن الحلّ العسكري، سيجتاح الإرهابيون الشرق الأوسط، ومعه لبنان، ويقضون على البشر والحجر.
بعد انهيار جدار برلين عام 1989 وتفكّك الإتحاد السوفياتي، عاش العالم الإسلامي حرية دينية بعيدة عن الإيديولوجية الماركسيّة والرأسمالية، خصوصاً أنّ مصالح الولايات المتحدة الاميركية، القطب الوحيد الذي يحكم العالم، كانت مؤمّنة، وفي هذه الفترة، نَمت الحركات المتطرفة، وأبرزها تنظيم «القاعدة» الذي سجّل في 11 أيلول 2001 ضربة موجعة وضعت العالم في مواجهة الإرهاب.
يستيقظ اللبنانيون يومياً وعلى حدودهم إرهاب يُشبه الأفعى التي لا تعرف متى تلسَع، وقد دفع لبنان في الأعوام الاخيرة أكثر من 600 شهيد بين عسكري ومدني نتيجة العمليات الإرهابية، وتنقّل مسلسل الموت من طرابلس وعكار مروراً بالضاحية الجنوبية وصيدا، صعوداً الى عرسال ورأس بعلبك. منهم من قال إنه نتيجة الجهل وقلة المعرفة، وآخرون إنه نتيجة انتشار الفقر، والبعض عَزا السبب الى التعبئة السياسية والدينية والإعلامية، لكنّ النتيجة واحدة: تفجيرات بالجملة، مواجهات في كل أنحاء الوطن وعلى الحدود، نعوش تلفّ بالعلم اللبناني، وأمهات تبكي أولادها.
يتكاتف العالم ويتعاضد لمواجهة الإرهاب، لذلك، نشأ التحالف الدولي لمحاربة «داعش» بقيادة أميركا، أمّا في الداخل فيطرح الجميع إقرار «استراتيجية موحّدة لمكافحة الإرهاب»، في وقت يؤكدون أهمية التصدّي له ومحاربته، وخصوصاً قيادات الطائفة السنيّة وعلى رأسها تيار «المستقبل»، الذي لو لم يكن على مقدار كبير من المسؤولية والوعي، لكانَ التطرّف اجتاح لبنان، ودخلنا في أتون حرب لا تنتهي.
يؤكد معظم المتخصّصين في علم الإرهاب، والأمنيون، أنّ البيئات الفقيرة والتعبئة الدينية، إضافة الى تجّار الحرب والمافيات، تسهم في نموّ التطرّف بهدف استغلاله لتحقيق أهدافها، فتعمد عندها الى السرقة والنهب، وبيع المخدرات، والإتجار بالبشر، وبيع الاسلحة، والتهريب، علماً أنّ معظم الثورات العربية خرجت من المساجد، لكن البعض استغلّ المراكز الدينية لأهداف ضربت الدين وشَوّهت صورته.
خطوات صارمة
في لبنان، واستباقاً للعاصفة التطرفيّة التي كانت تهدّده، بَرّدت المرجعيات السياسية الأجواء، وفتح باب الحوار بين تيار «المستقبل» و«حزب الله» لكسر حدّة التقاتل المذهبي، كما كان لدار الفتوى دور بارز في ضبط بعض المشايخ الذين يحرّضون على الفتنة، ويعبئون الناس، وقد أدّى مفتي الجمهورية الشيخ عبد اللطيف دريان دوراً بارزاً في إطفاء أصوات المشايخ المحرّضة، وفي هذا الإطار تكشف «الجمهورية» بعض الخطوات التي تتخذ لضبط المساجد:
- رسم سياسة موحّدة لدار الفتوى عبر اقتراح خطب الجمعة لكلّ مساجد لبنان، تركّز على ضرورة نبذ التطرّف والفتنة والتشجيع على الاعتدال والعيش المشترك، وقد أخذ المشايخ بهذا الاقتراح ويطبّقه كلّ واحد حسب أسلوبه.
- عندما تعلم دار الفتوى أنّ أحد المشايخ تخطى بخطابه السقف المرسوم له، يُستدعى الى الدار ويستوضح سبب رفع النبرة، وإذا لم يلتزم، تُنذره الدار
قبل أن توقفه عن إلقاء الخطب، ومن ثم توقفه عن عمله، أو تنقله الى مكان بعيد عن بيئته، وقد اتخذت هذه الخطوات بحقّ بعض المشايخ.
- إعتمدت دار الفتوى خطوة قريبة الى النوع الإستخباراتي مع المشايخ، حيث تسجّل خطب الجمعة في بيروت وضواحيها لتستمع اليها في اليوم الثاني، لتتحقّق ما اذا كان هناك تجاوزات أو أي تحريض أو تخط لسياسة الدار الجديدة، وعلى أساسها تأخذ التدابير المناسبة.
- جمَعَ المفتي دريان منذ أيام جميع المشايخ، وأبلغ إليهم كلاماً واضحاً وجدّياً وحازماً، بالابتعاد عن التحريض، لأنّ إثارة الغرائز الطائفية تضرّ المجتمع، فيما وظيفة رجال الدين توعية المجتمع وحمايته، والعمل من أجل الخير العام.
وفي هذا الإطار، يوضح المدير العام للأوقاف الإسلامية الشيخ هشام خليفة لـ»الجمهورية»، أنّ «قرار مكافحة الإرهاب واضح، واتخذ منذ انتخاب دريان، لأنّ التطرف يقضي على الجميع»، مشيراً الى «التنسيق بين المرجعيات الدينية والسياسية لمكافحة هذه الآفة».
ويلفت الى أنّ «ضبط المساجد التابعة لدار الفتوى وصل الى مراحل متقدمة، وصوت التطرّف خَفتَ، لكنّ المشكلة تكمن في بعض المساجد التي لا تعود ملكيتها للدار، والتي تموّلها شخصيات سياسية وجمعيات ذات أهداف معروفة»، مؤكداً أنّ «الدار مفتوحة أمام الجميع بمَن فيهم «حزب الله» من أجل الحوار ونبذ الأحقاد».
الحرب بالإقتصاد
تعترف دار الفتوى بأنها لا تستطيع تأمين الموارد الاقتصادية اللازمة لمحاربة ظاهرة الفقر المُستشرية في طرابلس وبعض المناطق لأنّها لا تملك إلّا مردود أملاكها، القليل نسبياً، وقد أمّن الرئيس فؤاد السنيورة منحة مالية من دولة الإمارات للدار، استخدمت للتأمين الصحي للمشايخ وعائلاتهم.
لكنّ الخبير الإقتصادي الدكتور مروان اسكندر، يؤكد لـ«الجمهورية» أنّ «الإقتصاد مهمّ في مكافحة الإرهاب، ومن السهل جرّ إنسان فقير الى التطرّف، لكن هذا السلاح يحتاج الى 5 سنوات ليعطي مفعوله، وعندها يكون لبنان قد ذهب في خبر كان»، لذلك يؤكد اسكندر «وجوب اعتماد الحلّ العسكري أولاً، لأنّ الإرهاب مُصدَّر الى لبنان من الخارج، كما حصل بعد دخول الفدائيين الفلسطينيين، علماً أنّ لبنان كان يعيش منذ العام 1943 وحتى العام 1969 ازدهاراً اقتصادياً».
بين خطوات دار الفتوى، وتجنّد الجميع لمكافحة الإرهاب، يعيش الشارع الإسلامي تهدئة في وطن لم يكن يوماً مصدراً للإرهاب، على رغم انجرار أبنائه الى مشاريع لا تتناسَب مع تركيبته التعددية وتحترم خيارات جميع أبنائه.