تستحق تجربة الشهيد السيد عباس الموسوي، ونضاله في مقدمة صفوف المقاتلين والمجاهدين في المقاومة الإسلامية، وقفة مطولة، تحديداً فترة شغله لمركز الأمين العام لحزب الله عند انتخابه (مع خطين أو أكثر تحت كلمة انتخابه) في أيار1991، حتى وإن كان استشهاده في شباط 1992، جعل منها فترةً قصيرةً جداً، إلا أنها ورغم قِصرها كانت لتؤسس لتوجه ومسار مختلف تماما عما صارت عليه الأمور من بعده.
صحيح أن المرتكزات الفكرية والعقائدية للحزب لم تتغير ولم تتبدل، وصحيح أيضا أن القاعدة الأساس في بنية كامل الهيكل التأسسي هي نفسها منذ نشأته والمختصرة بفكرة ولاية الفقيه، إلا أنّه بلا شك ولا ريب فقد كان للسيد الشهيد مقاربة مختلفة تماما لكلّ شيء. وهذا من الأمور التي يتلمسها ويعيها جيدا من عايشوا تلك الفترة وبالأخص من رافقوا السيد عباس عن قرب، وكاتب هذه السطور هو واحد منهم.
ففي تلك المرحلة، وان كنا نعتبر ان بيننا وبين الجمهورية الإسلامية علاقة شبه عضوية إلا اننا في الوقت عينه لم تختفِ من سلوكياتنا ومن تفكيرنا وأدائنا تحت عباءة السيد الشهيد خصوصيتنا اللبنانية بالمعنى الوطني (مع اعتراضنا على النظام السياسي)، ولم نكن لنعتبر أنفسنا جزءًا من كلّ أو أتباعاً لمتبوعين، مع الملاحظة أنّ الامام الخميني صانع الثورة ومؤسس الدولة كان يتربع على رأس الجمهورية الإسلامية في تلك المرحلة.
حضور السيد عباس ومنطلقاته الفكرية تميّز كونه آتياً من النجف الأشرف (وليس من قم)، ومن مدرسة الشهيد محمد باقرالصدرالمختلف تماما بفهمه لولاية الفقيه على أنّها ولاية مطلقة لا تناقش ولا تجادل كما أصبحت عليه اليوم، بل فقط كونها فكرة سياسية قد تحقق ضرورة مرحلية في الانتظام العام الذي يحتاجه مشروع مقارعة الظلم والفساد. وكمؤشر بسيط على هذا الفارق الكبير بالنظرة إلى مرجعية ولاية الفقيه، نستذكر في هذا المجال موقف السيد عباس الموسوي من المعارك التي نشبت بين حركة امل وحزب الله في العامين 1988 – 1989 وموقفه الرافض لها حتى الاعتزال والاستقالة.
وعليه فقد كانت مقاومة السيد عباس الموسوي للمحتل الإسرائيلي هي مقاومة حقيقية، تهدف إلى تحرير الأرض وإنقاذ الانسان اللبناني من رجس الاحتلال كونه واحداً من أكبر مظاهر الظلم في العالم، ومن هنا نفهم مقولته الشهيرة التي اختفت من ادبيات ومسار الحزب العملي “اننا كما قاومنا الاحتلال سوف نقاوم الفساد” وعندما قال لجمهور اللبنانيين باأنّنا “سوف نخدمكم بأشفار عيوننا”.
وبهذه الروحية الرافضة لكل اشكال الظلم والظّلّام كان يرى السيد عباس في النظام الاسدي بسورية “العدوّ الذي لا نقاتله” واعلن مرارا وتكرارا سخطه على هذا النظام واستبداده وفساده، خصوصاً على لبنان واللبنانيين، وهو العارف عند إعلانه شعار محاربة الفساد ان الاصطدام في النهاية سيكون حتمياً مع هذا النظام.
فلم يكن السيد عباس يقاتل الاحتلال الإسرائيلي لتحرير الأرض فقط، وانّما كان جلّ همه بعد ذلك هو تحرير الانسان عبر المساهمة برفع كل اشكال الحرمان. وانا على يقين بأنّ السيد عباس ما كان ليرضى أبداً أن يزول عن كاهل اللبنانيين احتلال كالاحتلال الإسرائيلي ويبقى المواطن يعاني كما هو الآن ويرزح تحت احتلال هذه الطبقة السياسية من اجل اعتبارات حزبية ضيقة، او لخدمة اجندة تسمى الآن “محور”، كما آلت اليه “مقاومة” السيد حسن.
وهنا اكاد اجزم بأنّ الرؤية التحررية التي كان يتمتع بها السيد الشهيد وحسّه الرفيع بتقديم مصلحة وطنه ومواطنيه على أيّ مصلحة أخرى، كانت هي السبب الأول في استهدافه، لأنّ مثل هذه الرؤية الوطنية هي التي تشكّل الخطر الحقيقي الأول على الكيان الإسرائيلي. وحتى على كلّ من يريد إبقاء لبنان ساحة مفتوحة، واللبنانين مجرد ادواة مسخرة لخدمة مشاريع خارجية.
ولا ابالغ القول بأنّ ثمّة تشابهاً كبيراً بين ما كان يحمله الشهيد السيد عباس الموسوي من نظرة إلى مستقبل لبنان السيد الحرّ المستقل وبين نظرة الشهيد رفيق الحريري, رحم الله الشهيدين .