يقود ضباط «حزب الله» و «الحرس الثوري» الإيراني الهجوم الأخير في ريف القنيطرة وشمال غربي درعا. وتقول الأنباء إن المهاجمين حققوا تقدماً واستعادوا بلدات وتلالاً استراتيجية كانت قوات المعارضة سيطرت عليها في وقت سابق قبل أن تشن هذه هجمات معاكسة.
يضاف هذا التطور الميداني الذي يقال إنه محاولة لوقف تمدد مسلحي الجبهة الجنوبية نحو ريف دمشق، إلى سلسلة المشاركات الواسعة لمقاتلي «حزب الله» في الحرب السورية بعد معارك القصير ويبرود ومعلولا والقلمون، إضافة إلى وجودهم الكبير في مناطق السيدة زينب وريف دمشق وصولاً إلى حلب وحمص، وهذه الأخيرة اعتبرت مسألة محض إيرانية لم يمكن التوصل إلى تسوية لوضع مقاتلي المعارضة في أحيائها القديمة إلا بتدخل مباشر من المسؤولين العسكريين الإيرانيين الذين أشرفوا على المفاوضات والترتيبات اللوجيستية التي أفضت إلى خروج المقاتلين من البلدة القديمة.
في غضون ذلك، ما زالت أصوات تعلو معتبرة أن «حزب الله» بمشاركته في الحرب السورية انحرف عن دوره كقوة مقاومة هدفها المفترض الوحيد حماية لبنان من أي عدوان إسرائيلي.
في الوسع إثبات خطأ هذا الفهم لماهية المقاومة ووظيفتها، ليس في السياسة والدفاع فحسب، بل في مجالات الثقافة والاجتماع أيضاً، والقول إن المقاومة التي يقودها «حزب الله» إنما تؤدي بالضبط دورها الدقيق، ليس بتنفيذ استراتيجية إيرانية فحسب، على ما يود الخائفون من التوسع الإمبراطوري الإيراني قوله، بل أيضاً في تعبيرها عن أزمة عميقة في بنية الاجتماع السياسي والدولة في المشرق العربي. بل يمكن القول إن ما يفعله الحزب هو تطبيق مفهوم المقاومة في المعطى السياسي الراهن.
وليس مصادفة أن يتشارك الحزب اللبناني مع الميليشيات الحوثية في اليمن و «الحشد الشعبي» العراقي في صفات تتجاوز بأشواط الانتماء المذهبي والولاء لإيران إلى الموقف من الدولة والسلطة السياسية، ومحاولة إعادة تعريفهما بما يضمن دوراً مقرراً وأرجحية حاسمة في سياساتها وتوجهاتها الداخلية والخارجية.
ذلك أن المقاومة تعريفاً هي البديل الأهلي عن دولة أخفقت في أداء واجباتها المفترضة، سواء في الدفاع عن الأرض ضد المعتدي الأجنبي أو الحفاظ على الهوية الثقافية والدينية، كما يُفهم من دراسات ما بعد الاستعمار (البوست كولونيال). وفي استعراض للحالات التي شهدت ظهور قوى المقاومة، المسلحة والسلمية، يلاحظ بسهولة غياب الدولة الوطنية أو تعليق عملها أو وقوعها في لجة صراع أهلي محتدم. تمتد الحالات هذه من فيتنام أثناء الاحتلالين الفرنسي ثم الأميركي والجزائر في حرب التحرير ضد الاستعمار الفرنسي، وصولاً إلى لبنان الذي بدأت مقاومته ضد الاحتلال الإسرائيلي في وقت كانت الدولة قد تلاشت. ينطبق الأمر ذاته على حركات المقاومة الأوروبية أثناء الاحتلال النازي لفرنسا وهولندا ودول أوروبا الوسطى والشرقية.
المقاومة الثقافية التي يطنب كتاب دراسات ما بعد الاستعمار في الحديث عنها لا تشكل استثناء. فالتمسك بالخصائص المحلية من لغة وتقاليد وعبادات وعادات، يبدو عملاً مجتمعياً أقرب إلى الدفاع عن النفس أمام هجوم ثقافة المستعمر وعاداته، وسط انعدام الدفاع المؤسسي الذي كان على هيئات الدولة توفيره.
غني عن البيان أن هذه الحالات جرت في بقاع انهارت فيها بنى الدولة القديمة تحت ضغط الاحتلال والاستعمار، وفي ظل محاربة دولة الاحتلال كل محاولات تشكيل بدائل وطنية، كما فعلت فرنسا في قمعها العنيف مساعي الأمير عبدالقادر الجزائري تشكيل دولة تتولى مهمات تلك التي أطاحها نزول القوات الفرنسية إلى أرض الجزائر.
تعبر حركات المقاومة عن فراغ في هيكل الدولة نتيجة الاحتلال أو بسبب الافتقار إلى الإجماعات الوطنية الكبرى. والسمة الأخيرة هي ما نعثر عليه في المشرق العربي. عليه، يمكن فهم ذلك المديح المتبادل، بين «حزب الله» و «حركة أنصار الله» التي منحتها وسائل الإعلام الإيرانية (قناة «العالم» على سبيل المثال) صك الانتماء إلى محور المقاومة، وهو ما باركته حركة الجهاد الإسلامي.
التمدد المسلح إلى الداخل السوري من جانب الميليشيات العراقية واللبنانية ينطوي، وفق هذا المنظور، على أكثر من مد يد العون إلى الحليف السياسي (والمذهبي) الذي يقاتل للحفاظ على سلطته المتآكلة. فهو يشير إلى حالة الفراغ في السلطة التي تعاني سورية منها وتحولها بالتالي إلى أرض قابلة لشكلين من البدائل: المقاومة المعبرة عن نهاية السلطة المركزية السابقة التي عرفتها البلاد منذ الاستقلال، ومقاومة المقاومة (إذا جاز التعبير) الذي تمثله محاولات بناء دولة جديدة هي الخلافة التي يروّج لها تنظيم «الدولة الإسلامية في العراق والشام - داعش».
أما ما تقاومه المقاومة هذه فيحتل درجة متأخرة في سلم الأولويات، كما بيّنت تجربة «حزب الله» في لبنان بعد الانسحاب الإسرائيلي في 2000. ذلك أن هشاشة الدولة الوطنية وجيشها ومؤسساتها، كانت كفيلة بتوفير الذرائع الكافية للحزب لتبرير الاحتفاظ بسلاحه. وهو مصر على الاحتفاظ به إلى أن «تقوم الدولة القوية»، من جهة، لكنه غير معني بالإجابة عن السؤال البسيط: كيف تقوم الدولة بوجود جيش رديف أقوى من الجيش الوطني؟
لا ترتبط الدورة المفرغة من الأسئلة والإجابات المشابهة بضـــرورات الاسـتراتيـجية الإيرانية وحدها. بل الأرجح أن تستمر ويتـفاقم خطرها على ما تبقى من عوامل اتحاد بين مكونات هذه المنطقة، ما دام الاختلاف شاسعاً حول أساسيات السلطة المتصورة.