لطالما، اعتُمِدَ، في مواجهة ارتكاز الحركة الاستقلالية على لحظة استشهاد الرئيس رفيق الحريري، المنطق التالي: ان الحريري كان رئيس «حكومات متعاقبة« في ظل نظام الوصاية، وأنّه لم يدع في أي بيان علني لتقويضها. هذا نموذج للحق الذي يراد به باطل: نعم. كان الحريري رئيس حكومات متعاقبة في ظل الوصاية، ولم يلقِ بياناً يدعو الى تقويضها، ولا دعا السوريين الى اسقاط الديكتاتورية واحلال الديموقراطية. لم تكن حال الشهيد الحريري هي حال الشهيد سمير قصير. الأخير راكم نصوصاً تشدّد على الربط بين استقلال لبنان عن الوصاية وبين سقوط أصل الوصاية أي النظام في دمشق. الرئيس الحريري لم يكتب أو يقل ذلك، ولم يؤلف تنظيماً سرّياً حديدياً يراد منه تحقيق ذلك. لكنه مع ذلك، كان يرعب هذا النظام السوري. كان يرعبه قبل الحديث عن انتخابات ، وقبل التمديد والقرار ، بل قبل خلافة بشار الأسد والده حافظ، بل منذ التسعينيات، وقد يكون قبل. وكان يرعبه أيضاً لأنه كان كما كان: لا يخرج ببيان ينادي بإسقاط الوصاية او اسقاط النظام، ولا يبدو مقتنعاً بمنطق الثورات، بل تدرّجياً، تراكمياً، اصلاحياً، براغماتياً، وفي الوقت نفسه، بوزن استثنائي، أي ثوري. رؤى اصلاحية، لا ثورية، انما بحجم ثوري، هذا المركّب كان «طبيعياً» أن يثير الرعب في بنية النظام السوريّ، هذا النظام الذي أدمن تكرار الشعارات الثورية دون أن يكون فيه متسع لاحتمال اصلاح واحد في أي أيّام من تاريخه، منذ الحركة «التصحيحية» لحافظ الأسد على رفاقه، والى اللحظة التي تحوّل فيها الى نظام احتضار دموي مزمن
الذي ارتعبت منه نواة النظام السوري لسنوات ما كان قائد تنظيم مسلّح، ولا أيديولوجيّ مواجهة مفتوحة، انما رجل أعمال في البدء، ثم رجل أعمال له باع في الديبلوماسية، ثم رجل دولة
في المذاهب الاقتصادية كلّ يرى رأياً، والرئيس الحريري كانت له، كرجل أعمال برز في المملكة العربية السعودية ثم على امتداد العالم، أفكاره ورؤاه الاقتصادية. تتفق معها او تختلف. لكنها بالمحصلة وجدت جواباً حيث طرح الآخرون العدم: في مواجهة مدرسة «لم يعد هناك دور اقتصادي للبنان بعد الحرب» كان مصمماً على اظهار انه، بلى، ثمة دور ودور حيوي، وبرغم ظروف لبنان بعد الحرب، بدءاً من تركة الحرب الاهلية نفسها، وملفاتها العالقة من تدمير بنيان وتهجير وأحقاد، وصولاً الى الوصاية السورية، التي أمكن له ذلك، بشكل أساسي، بسبب استفادة نظام دمشق من ظروف الحرب الأميركية على العراق الذي كان حليف المسيحيين العسكري في ذلك الوقت
هل يعني ذلك ان الحريري كان «اقتصادوياً»؟ بمعنى انه يختزل كل شيء للاقتصاد ويعتبر انه في مرحلة الاعمار ينبغي الاكتفاء بالنهوض الاقتصادي، وتأجيل الكلام بالسياسة لمرحلة أخرى، وان الاقتصاد الناجح في مرحلة اولى سيتيح الديموقراطية والاستقلال في مرحلة ثانية؟ لا. هذا غير دقيق. اساسا كان هذا حلم النظام السوري: اترك لنا السياسة، وعليك بالاقتصاد وحده
لقد ووجه الحريري بمنطقين عجيبين اذاً من نفس المصدر، وجمعهما يصير هكذا: «لا دور اقتصادياً حيوياً للبنان بعد الحرب، لكن اكتفِ بالاقتصاد يا رفيق الحريري»، واكتفِ به، تحت عيوننا، واقتطاعاتنا، لحساب منظومة الوصاية العسكرية والمخابراتية وما لفّ لفّها
ما هي «السياسة» التي أراد النظام السوري أن لا يزاولها رفيق الحريري، وأنْ يعتصم بالاقتصاد؟ ليست طبعاً، «سياسة تقويض الوصاية». فهو رئيس وزراء لبنان، بتفاهم اقليمي من جهة، لكن بعد ازمة مصرفية ومالية عاتية في أيار 1991، صار فيه اسناد المنصب للحريري مطلباً شعبياً، اي بعد ان ادرك نظام الوصاية انه في مرحلة ما بعد الحرب الاهلية فان ادارة الاوضاع الاقتصادية والمالية اللبنانية يمكن ان تتحول الى قنبلة في وجهه اذا اسندت الى المؤيدين له المباشرين، وما كانوا قادرين على هذه المهمة. كانت هذه ايضاً لحظة رعب داخلي للنظام السوري: فهو عندما يترك الاقتصاد في ايدي المؤيدين المباشرين له يخرب. اعيدت التجربة عام ، والنتيجة كساد كبير. واعيدت عام : نفس النتيجة. وفي الوقت نفسه، فان حاجة الاقتصاد الى الرئيس الحريري يومها لم يكن مردها لأنه «سوبرمان» في الاقتصاد وحده، بل لأنه تحديداً، ليس مجرد رجل اعمال كبير، يأتي للعمل على الآفاق الاستثمارية فقط. بل لأنه قامة دولية، وعلاقات عربية ودولية، وعقدة وصل ديبلوماسية، وسريعاً، منظومة تواصل ومد علاقات وحوارات وتفاعلات مع مروحة من الشخصيات والاطراف اللبنانية، متجاوزاً خطوط الحرب الاهلية التي ارادت الوصاية تأبيدها حيثما تجد حاجة
كانت الوصاية الاسدية تحبذ استدامة اللعبة الآتية. يبقى المسيحيون يرددون: «لبنان لبناني» والمسلمون «لبنان عربي» الى أبد الآبدين، وتبقى الوصاية تفصل بينهما، وتحكمهم جميعاً. تعلّم المسيحيين العروبة بنفي القادة أو سجنهم، وتتخذ من عروبة المسلمين سبيلاً أكبر لقمع مدنهم وحيوياتهم
في التسعينيات حدث التجاوز المزدوج لهذه المعادلة السورية: الارشاد الرسولي من بعد السينودس، جاء ليطرح لبنان التعددي في محيطه العربي، والرئيس الحريري جسّد في حركته السياسية، وفي اصراره على الدور التنافسي، الحيوي، والخاص، للبنان اقتصادياً، ما يمكن ان نسميه «العروبة اللبنانية». ثمة نمط لبناني خاص من العروبة: هذه كانت المعادلة الفعلية لاستثنائية رفيق الحريري. الرعب منه من جهة النظام السوري ما كانت بعيدة عن هذا السبب. بالتأكيد، هذا النظام كان يلاحق أنصار الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات او العراقي صدام حسين، وهؤلاء في فترة معينة كانوا يرفعون سقف التنديد به كنظام، لكنهم ما كانوا يرعبون هذا النظام، خصوصاً بعد حرب المخيمات بالنسبة الى الفلسطينيين. وهناك الجماعات المسيحية المناهضة ايضا للنظام السوري، وكانت مشكلة جدية لهذا النظام بعد دخول قواته قصر بعبدا، الا ان السيادية المسيحية وحدها كان النظام السوري يقول لنفسه انه قادر على التعامل معها: يتلطى حول انقسامات الحرب الاهلية، والصراعات المسيحية الاسلامية، والصراعات بين المسيحيين انفسهم، ويهنئ. ما افتقد النظام السوري لهذه الثقة بنفسه أمام ظاهرته كان الرئيس الحريري، وهذه «العروبة اللبنانية». فهي من جهة، ترفد الكيانية الوطنية اللبنانية بما يقوي عودها، ويجعل عروبة السينودس تتلاقى فيه مع الاعتدال الملتزم بالكيانية في المقلب الثاني
هناك تاريخ راكمه النظام السوري من الرعب من شخصية، وحضور، وعلاقات، وأفكار، ومبادرات، رفيق الحريري. عندما لا يستطيع هذا النظام ان يسجّل «خطأ قومياً» على الحريري يرتعب، وعندما يستطيع يرتعب. عندما يتحدث الحريري للمسلمين يرتعب، وعندما يتحدث للمسيحيين يرتعب. عندما يذهب الى بلاد الغرب يرتعب، وعندما يتخذ من دمشق دارة له يرتعب النظام ايضا. هذا النظام الذي قام على ارهاب الناس وارعابهم لعقود، وجد ايضا من يرتعب منهم. بين هؤلاء قامة الرئيس الحريري لها ميزان خاص. ولها عهدين: حافظ الاسد وبشار الاسد. الأب كان أيضاً يشعر بهذا الرعب، لكنه كان يعتبر انه رعب لا بد من ومسيطر عليه، بشرط الدقة في المتابعة. أما بشار الأسد، ففي أصل عدائيته للرئيس الحريري، التي هي معطى مهم جداً في أي بحث في أسباب الجريمة الكبرى، هي هذا الرعب، المضاعف في حالته، كونه رعب من عدم تمكنه من السيطرة على مصدر الرعب بالنسبة اليه
وعندما اقتربنا من انقضاء عهد الرئيس اميل لحود اعتبر بشار الاسد ان الرعب الذي كان لأكثر الوقت بلا تفسير متماسك قد وجد ضالته. فهذه اللحظة صارت فيها المنازل السيادية اللبنانية جاهزة للتلاقي، وصار فيها منطق رفيق الحريري يفتح على منطق لقاء «قرنة شهوان«، على منطق سمير قصير. اعتبر النظام ان الحريري هو نقطة المركز في كل هذا. سيظل يعتبر اذنابه هذا لاحقا، وسيرددون في الوقت نفسه ان الحريري كان صديقاً لدمشق فكيف تقتله.
هناك في اغتيال الرئيس الحريري ما هو «وظيفي» وما هو «قصدي». التركيز اكثره حتى اليوم على «الوظيفي»: كيف حدث الجرم، من قرر، وخطّط ونفّذ. لكن ثمة معطيات قصدية اساسية. منها هذا الرعب، رعب النظام السوري المزمن من شخص ما كان يرفع راية الثورة بل الاصلاح، الاعمار، التدرّج، انما بوزن ثوري، اقتصادياً وديبلوماسياً، وضمن الخارطة الاجتماعية والاهلية اللبنانية
ثم قتلوا الرئيس الحريري. فغدا يرعبهم اكثر. تقويض الوصاية. حرب اغتيالات ضد الاستقلال الثاني. اعتقدوا انهم يكررون قتل الحريري مرات عديدة. جاءت المحكمة الدولية. ارتعبوا فترة، ثم اعتبروا انفسهم قد ارتاحوا نسبيا فترة. ثم انفجر الوضع في سوريا نفسها. وفي سوريا، كان اول هدف لبشار الاسد ان يمنع الثورة السورية من ان تتخذ اي وجه لها يحاكي سيرة ووجهة وروحية رفيق الحريري. الرعب من الرئيس الحريري في مسيرة نظام البعث هو ايضاً «ما بعد موتي». النظام يتعامل مع سقوطه كهزيمة أمام الشعبين السوري واللبناني طبعاً، لكن على نحو شخصي للغاية، يتعامل هذا النظام مع سقوطه كهزيمة رمزية ومعنوية مع الرئيس الحريري.

وسام سعادة
المستقبل