قيل الكثير عن إمكانيّة حصول تغيير في السياسة الخارجية السعودية في أثناء تسلّم الملك سلمان العرش في المملكة العربية السعودية، وبينما كان المراقبون يرصدون أصغر المؤشرات كدلائل على إمكانية حصول مثل هذا الـأمر لاسيما فيما يتعلق بالملف المصري، وقبل أن يتاح للجانب السعودي التعبير عن نفسه في هذا المجال، سارع الجانب المصري إلى التأكيد أنّ هناك تحوّلاً قد حصل بالفعل مع وفاة الملك عبدالله، على الأقل بالنسبة إلى السيسي وجماعته.
فما إن تمّ الإعلان عن استلام الملك سلمان العرش حتى بدأت الكتيبة الإعلامية التابعة للسيسي بالقصف المرّكز على الملك، وجميعنا تابع وشاهد بالصوت والصورة الإعلاميين لميس، ووائل الإبراشي، والحسيني، وإبراهيم عيسى وغيرهم ممن تهجّموا على الملك الذي لم يبدأ مشاوره بعد.
جميعنا يعلم أيضاً حجم التحديات الخارجية الكبرى التي تواجه المملكة ودول مجلس التعاون الخليجي الآن، وأبرزها: صعود النفوذ الإيراني إلى مستوى غير مسبوق في التاريخ الحديث، وسيطرة ميليشياتها المسلحة على بلدان عدّة في العالم العربي، لعل آخرها حتى الآن اليمن، وصعود الجماعات المتطرّفة المسلّحة كداعش والقاعدة، وتنامي مناطق ومساحة سيطرتها وعملها على تخوم المملكة، بالإضافة إلى المفاوضات الأمريكية – الإيرانية التي تتجه على ما يبدو إلى اتفاق من شأنه أن يؤدي إلى تعميق الفجوة في ميزان القوى الإقليمية لصالح إيران.
وفي هذا السياق، تبدو سياسات السيسي الكارثيّة كمن يصب الزيت على النار في هذه الخلطة المتفجّرة من التحديات الإقليمية، التي تواججها المنطقة.
فالذين أتوا بالسيسي افترضوا أنّهم يحمون أنفسهم، وأنّ النظام الجديد سيوازن المعادلات الداخلية والخارجية، ويساعد أيضاً دول المجلس على مواجهة هذه التحديات، لكنّ الواقع اليوم يبرهن على عدم صحّة هذا الافتراض، ويؤكد ما سبق وقلناه في 26/11/2013، من أنّ "نظام السيسي يشكّل خطراً على دول الخليج العربي، لأنّه يستنزف داعميه مالياً وسياسياً واستراتيجياً، ولا/ولن يقدّم من الناحية الجيوسياسية أي شيء في المقابل، لا الآن ولا مستقبلاً، فهو أضعف من أن يواجه مشكلته الداخلية، فما بالكم بالمشاكل الإقليمية والدولية الشائكة التعقيد".
هذا كان قبل سنة ونيّف، أمّا اليوم فتبدو الأمور أسوأ، فالسيسي يدفع مصر إلى الانفجار، وإذا ما سقطت مصر بفعل هذه السياسات، فإنها ستجر المملكة والمنطقة العربية برمتها معها.
السياسيات الحالية للسيسي تتناقض تماماً مع مصالح المملكة العربية السعودية، وهي تزيد من الأعباء المفروضة عليها إزاء مواجهة التحديات الخارجية السابقة الذكر (النفوذ الإيراني والميليشيات الشيعية، جماعات التطرف المسلحة، والصفقة الأمريكية - الإيرانية)، وذلك للأسباب التالية:
1) القمع الشديد الذي ينتهجه السيسي في الداخل يؤدي إلى تطرّف الشباب، ويساعد على تغذية العنف وعلى دفع المزيد منهم إلى الانضمام إلى جماعات متطرفة قد يرون فيها متنفساً للثأر والرد على النظام، وهو سيناريو أيضاً قد يتطور إلى صراع اجتماعي متفجر، أو إلى صراع مسلح ضد النظام، وليس للسعودية أو دول الخليج أي مصلحة في ذلك، خصوصاً أنه يصب في سياق تعزيز موقف وخطاب وجدال الجماعات المتطرفة المسلحة، ويخلق البيئة المناسبة لعملها وتكاثرها.
2) تركيز نظام السيسي أيضاً على جماعة الإخوان كمصدر لأنواع الشرور كلها في الكون، وعلى إنهاء قياداتها حبساً أو قتلاً أو إعداماً أو عزلاً أو نفياً، سيؤدي إلى فقدان سيطرة الجماعة على القاعدة الشعبية الشبابية التابعة لها، و هذا سيؤدي إلى تسهيل انضمام هؤلاء إلى جماعات أخرى مسلّحة ربما، وهو أمر ليس في مصلحة أحد بالتأكيد لا في الخليج ولا في غيرها من المناطق.
3) من الواضح أنّ السيسي أيضاً يحاول تصدير مشاكله الداخلية وعجزه وعدم قدرته على إنجاز المهمة التي أوكلت إليه، فيرميها على دول وجماعات خارجيّة. أخطر هذه التحركّات التي جرت مؤخراً هو اتهام حركة حماس وتصنيفها بأنّها حركة إرهابية، وفي هذا استدعاء غير مسبوق لاشتباك خارجي مع الحركة، وتحريض وتهيئة البيئة المناسبة لإسرائيل للاشتباك أيضاً معها في في أي وقت، مما يعني إمكانية اندلاع حرب هناك، وهذا أيضاً ليس من مصلحة المملكة أبداً. فلنا أن نتصور كيف سيكون الموقف الشعبي العربي آنذلك، وهل سيتوقف اللوم أو الهجوم عند حدود السيسي أم سيطال داعميه؟
أضف إلى ذلك أنّ هذا النوع من الضغط والعزل الذي يمارسه نظام السيسي ضد الفلسطينيين، وتحديداً حماس، يساعد ويسرع على عملية إعادة الانفتاح بين الحركة والجانب الإيراني إن لم يكن هو في الأساس أحد أسبابها أصلاً، وهذا كما هو معلوم ليس في مصلحة المملكة ولا في مصلحة أحد.
4) نظام السيسي يتّبع سياسات خارجية إقليمية متناقضة تماماً مع السعودية، لاسيما في سوريا والعراق وحتى تجاه إيران، فهو كما أصبح معلوماً لا يكتفي بموقف شبيه من الموقف الإيراني والروسي من نظام الأسد،.
بل تقول تقارير مؤخراً إن أسلحة مصرية أيضاً (الصقر) تستخدم بين الحين والآخر من الأسد ضد المدنيين السوريين. ورغم التصريحات الاستهلاكية و/أو الابتزازية للسيسي عن "أمن الخليج" وعن "استعداد الجيش المصري لتوجيه ضربات في باب المندب"، فإن المؤشرات جميعها تشير إلى تواصل غريب بين النظام المصري ونظيره الإيراني لاسيما في الآونة الأخيرة.
هناك الكثير مما يمكن ذكره عن نتائج سلبية لسياسات السيسي على المملكة وعلى مدى قدرتها على مواجهة التحديات المتراكمة في جوارها، لكن في جميع الأحوال، فإن هذا الوضع يحتاج إلى تصحيح، وهذا يتطلب من المملكة أيضاً التحرك السريع لإغلاق الملف المصري؛ كي لا يتحوّل إلى ملف إشغالي يستنزفنا جميعاً في وقت تكبر فيه دائرة التحديات الأخرى وتتعاظم.
إغلاق الملف المصري كملف إشغالي وتحويله إلى عنصر دعم ذي قيمة مضافة، ونقل مصر من قوّة معطّلة إلى قوّة يمكن الاستفادة منها في المعادلة الإقليمية، بشكل يساعد المملكة على مواجهة التحديات الإقليمية، أمر مطلوب وحيوي ويجب أن يتم سريعاً، وأن يكون أولوية أيضاً على الصعيد الخارجي بالنسبة لأجندة الملك سلمان.
تحقيق هذا الأمر ممكن إذا قرر الجانب السعودي أن يضغط على السيسي من أجل مصالج شاملة في مصر، أو أن يطرح مبادرة يسعى من خلالها إلى تحقيق تسوية داخلية. لن يكون أمراً سهلاً بالتأكيد، لكن الأكيد أنّ هناك من سيتلقّف مثل هذا الطرح السعودي بسرعة وقوّة، بل ويساعد المملكة على تحقيقه، سواء على مستوى الجماعات والتيارات السياسية داخل مصر، أو على مستوى الدول الإقليمية كتركيا وقطر.
ولا اعتقد أنّ عاقلاً سيعارض أن يكون هناك تسوية في مصر تغلق الجراح وتوقف النزيف المفتوح وتعيد الاستقرار وتمنع تفجّر الأوضاع، باستثناء بعض الجهات المصلحية داخلياً وخارجياً، التي من الممكن تهميش قوتها أو الحد من تأثيرها. فقطر كانت قد أبدت استعدادها القيام بوساطة كما يعلم الجميع، وقد عبّر الشيخ محمد بن عبدالرحمن آل ثاني، مساعد وزير الخارجية القطري لشؤون التعاون الدولي عن مثل هذا التوجه سابقاً.
كما أرسل الأتراك أيضاً مؤشرات مختلفة خلال الشهر الماضي عن استعدادهم للتجاوب مع تسوية مصرية، وعليه فالفرصة مناسية جداً للمملكة لتأخذ خطوة إلى الأمام وسريعاً من أجل الضغط على السيسي لتغيير مساره، أو أن يطرح الملك سلمان مبادرة من أجل تحقيق تسوية (من الممكن أن نناقش في وقت لاحق شكل هذه المبادرة وحجمها وعناصرها والأطراف المعنية بها)، سيكون لها نتائج إيجابية كبيرة على الوضع في مصر، وكذلك الأمر بالنسبة للمملكة، ولعل أبرزها:
1) استقرار وضع مصر داخلياً، مما يعني تقليل الأعباء على دول مجلس التعاون وخاصة المملكة العربية السعودية، وإتاحة المجال أمام مصر لاستعادة عافيتها وأيضاً تحررها من الحرب الداخلية، وهذا في حد ذاته مكسب للمملكة إذا ما أخذنا بعين الاعتبار التطورات الإقليمية المتسارعة.
2) استيعاب المعارضة المصرية الحالية وعلى رأسها جماعة الإخوان، وهو أمر مهم خاصة في معادلة محاربة الجماعات الإرهابية والمتطرفة حالياً، التي تنمو كالفطر في العالم العربي؛ إذ من المفروغ منه أنه لا يمكن النجاح في محاربة هذه التنظيمات، في وقت يدفع فيه الإسلاميون المعتدلون دفعاً إلى التطرف أو حمل السلاح.
لا بد من ترك بوابة مفتوحة على الإسلاميين لاستعياب المعتدلين و التضييق على المتطرفين، ليس هناك مصلحة لا للمملكة ولا للمنطقة لوضعهم كلهم في سلّة واحدة كما هو حاصل الآن.
3) المصالحة في مصر أو التسوية سينجم عنها أيضاً تداعيات إقليمية، بحيث يتم تبريد الجبهات المشتعلة في الخلاف الاستقطابي المعروف، الذي يعتبر امتداداً للخلاف الموجود في مصر، كذلك الموجود في ليبيا.
كما سيؤدي إلى احتواء انفتاح أي مجموعة إسلامية على إيران، بل وتعزيز الجبهة الإسلامية المعارضة للنفوذ الإيراني في العالم العربي (على رأسهم الإخوان)، بما يعزل إيران إسلامياً، ويخدم في المحصّلة موقف المملكة.
4) ستمتّن التسوية من الجبهة الداخلية في مصر، مما يتيح قدراً أكبر ومساحة أكبر لها لتأدية دور إقليمي فاعل، ولا شك أن ذلك سيكون في مصلحة المملكة أيضاً. ولا ننسى أنّ وضعية كهذه، ستجعل من تركيا وقطر ودول أخرى ضمن المعادلة، مما يعني نشوء جبهة سنّية عريضة في وجه التطرف والإرهاب من جهة، وفي وجه التمدد الإيراني والميليشيات الشيعية من جهة أخرى.
كما أنه سيكون من الصعب أن تتجاهل الولايات المتحدة هذه الجبهة، حال كان موقفها موحداً سواء في سوريا أو العراق أو اليمن، أو في موضوع المفاوضات مع إيران أو غيرها من المسائل الإقليمية، لكن إذا كانت كل دولة منهم تلعب منفردة كما هو حاصل الآن، فلا شك أنّ واشنطن لن تشعر بأنها مضطرة لتغيير موقفها طالما أنّ تكلفة تجاهل مصالح حلفائها في المنطقة هي صفر تقريباً.
الكاتب:علي حسين باكير