في ذروة الإثارة والاهتمام اللذين تسبّبهما عودة المواجهة في القنيطرة وشبعا بين إسرائيل عبر جيشها وبين إيران عبر نخبة كوماندوسها المتقدّم "حزب الله"، علينا أن لا ننسى أن هذه المواجهة المستجدّة هي عكس التيار العميق للأحداث البادئ بالتشكّل وليست تعبيرا عن مجراه الأساسي. لماذا؟
قد ينظر الجيل اللاحق بعد عشرين أو ثلاثين عاماً وربما قبل ذلك إلى سنوات العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين على أنها سنوات الانسحاب الإيراني من الصراع العربي الإسرائيلي مثلما ننظر اليوم - وبوضوح - إلى سنوات السبعينات من القرن العشرين على أنها كانت سنوات الانسحاب المصري من الصراع العربي الإسرائيلي.
ليست المرة الأولى التي أطرح فيها هذه المقاربة. فبعد إعلان واشنطن وطهران عن تجديد انطلاق المفاوضات بين إيران و"الخمسة زائد واحد" العام المنصرم بعد لقاءات سرية طويلة بدا أن الطرفين ومعهما الدول الكبرى يستعدان لعملية "تغيير كبرى في المناخ السياسي لمنطقة الشرق الأوسط" على قاعدة اتفاق على الملف النووي.
"تغيير المناخ السياسي في الشرق الأوسط". هكذا سُمّيت المرحلة الطويلة التي بدأت بعد "مبادرة روجرز" الأميركيّة الشهيرة لحل أزمة الشرق الأوسط والتي أثمرت في نتيجتها عن زيارة الرئيس أنور السادات للقدس ثم إبرام معاهدة كامب دايفد بين مصر وإسرائيل عام 1979 ومرّت وفاة الرئيس جمال عبد الناصر ( أي ربما بإقصائه) ثم "انتهت" بمقتل "بطلها" الرئيس أنور السادات عام 1981.
لا أقول ان التاريخ سيتكرّر بآليّاته نفسها، فهذا مستحيل بسبب فارق الظروف و"المدرسة" السياسية بين مصر وإيران وموقع كلٍّ منهما في ميزان القوى لأن الأولى أي مصر كانت خارجة من هزيمة استراتيجية عام 1967 تحاول تعويض ما أمكن منها في ما سُمِّي "حرب الاستنزاف" بينما الثانية أي إيران "خارجة" من حصار اقتصادي خانق ولكنها تحقّق اختراقات جيوبوليتيكيّة نوعيّة في المنطقة المحيطة بها من العراق إلى سوريا إلى لبنان حتى اليمن.
الملاحظة الأساسيّة التي تستحق لفت النظر إليها في هذه اللحظة من الفعل ورد الفعل الإسرائيلي الإيراني في القنيطرة ومزارع شبعا هي أن التحول السلمي الاستراتيجي لا يعني أنه لا يمر بتوترات عسكرية وحتى أحياناً بحروب خاطفة. فلْنتذكّر جميعا أن حرب أكتوبر الضخمة بين مصر وإسرائيل وبكل تضحياتها المصرية والسورية الهائلة ستصبح، على ما تبلور لاحقاً، المعبر الضروري لتحضير مسرح التحوّل السلمي عبر تقليص الفرق في ميزان القوى بين مصر وسوريا وبين إسرائيل لصالح الطرفين العربيّين وحصول اللاعبين العرب الكبار وعلى رأسهم الرئيس السادات على الشرعية الوطنية في بلدانهم والتي تؤهِّلهم لقيادة هذا التحوّل إلى السلام.
إذن "التغيير الاستراتيجي في المناخ السياسي" نحو السلام يمكن أن يمرّ بالحروب. ولهذا وفي غمرة المفاوضات الأميركيّة الإيرانيّة الجارية تحت العنوان النووي (والمرتبطة حتما بملفات المنطقة وأي كلام آخر هو كلام فارغ) فإن تجدّد المواجهة بين إسرائيل وإيران على الحدود السوريّة الإسرائيلية والحدود اللبنانيّة الإسرائيلية لا يعني تناقضا مع التحضير للمناخ السلمي الجديد خصوصاً أن المسار التفاوضي الإيراني الأميركي من الطبيعي أنه يواجه محاولات عرقلة من داخل إسرائيل والولايات المتحدة ونسبيّا ولكن بفعالية اعتراضيّة أقل من داخل النظام الإيراني.
لنلاحظ أن القناعة شبه المعلنة السائدة في خطاب التعامل مع عملية الاغتيال في القنيطرة للضابط الإيراني وكوادر "حزب الله" هي أن هذه العملية كانت استفزازا إسرائيليا غير مبرّر لسببين رئيسيّين:
الأول أن "حزب الله" أي إيران يحافظ بشكل متين وثابت على الاستقرار على الحدود اللبنانيّة الإسرائيليّة منذ سنوات ويطبّق روحية القرار 1701 تطبيقا فعلياً بمعزل عن التفاصيل وهي غير مهمّة بنظر الدول الكبيرة حتى لو كانت تحمل مخالفة وجود عناصر وسلاح "حزب الله" جنوب الليطاني. الجوهري ليس هذا وإنما فعاليّة "حزب الله" في استقرار الحدود.
السبب الثاني هو أن إسرائيل تعلم أن سبب الاستطلاع الإيراني لمنطقة الحدود السورية في الجولان - القنيطرة هو تنظيم المواجهات في الحرب الداخليّة السورية وليس للتحضير ضد إسرائيل على الرغم من التداخل الميداني في تلك المنطقة الحيوية، ككل جنوب دمشق، لحماية النظام السوري الفعّالة للعاصمة دمشق.
إذن نحن أمام اصطدامات فرعية وقد تصبح أكبر في مسار تغيير المناخ السياسي في الشرق الأوسط. أي انسحاب إيران من الصراع العربي الإسرائيلي. ولا معنى لأي اتفاق استراتيجي إيراني أميركي من دون هذه المحصّلة مقابل طبعاً المكاسب الإيرانية التي علينا أن نبحث عنها مستقبلاً بعيدا عن الحدود مع إسرائيل إذا كان لهذه العملية الأميركية الكبرى أن تنجح مع ما تعنيه من احتمالات تغيير في الأشخاص وليس فقط في المواقع. لأن بعض الاتفاقات الكبرى لا يصنع أحداثا فقط بل تجري صناعة أحداث تستبق حصوله.
ولا تنسوا مسرح السبعينات العربي من القرن المنصرم الذي كان يشهد التحضير لسحب "المدرسة المصرية القومية" من الصراع مع إسرائيل. الآن دور انسحاب "المدرسة الإيرانية الإسلاميّة". وسنرى فارق الكفاءة والقوة والأساليب؟؟