حين يتعلق الأمر بالصراع مع اسرائيل يغدو التضامن مع المقاومة شكلا من أشكال الانتماء إليها. لقد أسس أبطالها في لبنان مدرسة في شجاعة المواجهة، وتمكنوا من تكنيس جيش الاحتلال عن أرض الجنوب اللبناني، بصمودهم وإصرارهم على ملاحقته حتى آخر شبر من تراب الوطن(ما عدا المزارع والتلال المحاطة بالتباسات شتى).
ولم يكن في وسع المقاومين، للأسف، أن يجعلوا من تلك البطولات نموذجا يحتذى، لأن المشروع الصهيوني هو آخر ما تبقى من نماذج الاحتلال على الكرة الأرضية بعد زوال الاستعمار القديم، ولم يعد يوجد اليوم من يحتاج إلى هذه التجربة الرائدة التي صارت، بغير رغبة حزب الله، درسا من دروس التاريخ.
حزب الله، وهو الذي صنع هؤلاء الأبطال، حاول أن يجتهد وأن يؤول معنى المقاومة، متجاوزا حدود النص والتعريفات المتعلقة بالمصطلح. فالمقاومات ليست قديمة في التاريخ، بل هي وليدة مرحلة التوسع الرأسمالي وقيام الأوطان الحديثة التي احتل الاستعمار أرضها وانتهك سيادتها ونهب خيراتها وأذل شعوبها. والمقاومات الحديثة جداً نشأت في الحرب العالمية الثانية وكان أهمها في فرنسا والاتحاد السوفياتي ضد الاحتلال النازي، وفي فيتنام ضد الاحتلال الأميركي، وفي أفغانستان ضد الاحتلال السوفياتي، وفي الجزائر ضد الاحتلال الفرنسي، وغيرها. وفي التاريخ القديم كانت المقاومة تتخذ أشكالا أخرى كتلك التي تعرض لها الحكم العربي في الأندلس. ذلك يعني أنه لا مقاومة من غير احتلال، وإلا تحولت من أداة للتحرير إلى هدف أو إلى حزب أو بديل عن الحزب، تتماهى به ويتماهى بها، كما هي الحال مع المقاومة وحزب الله بعد أن أنجزت المقاومة مهمة التحرير.
عملية مزارع شبعا تجسد هاتين الحقيقتين معا، بطولة المقاومة وتجاوز الحزب حد السلطة وحد المعنى لمصطلح المقاومة. فقد نالت العملية من التقدير الشعبي والرسمي ما تستحقه على حسن التخطيط والتنفيذ والدقة واختيار المكان والزمان المناسبين، غير أن الصورة النقية للعملية ولأبطالها تشوهت بردات الفعل على المشروع السياسي لحزب الله وبالتبعات التي تتحملها بفعل هذا المشروع. الردود السلبية كانت ضد سياسة الحزب لا ضد بطولة المقاومة، فشكك الخصوم بالأهداف وتوجسوا من رد اسرائيلي عسكري محتمل يذكّر بدمار لبنان في تموز 2006 أو بدمار غزة بعده بعامين، واستحضروا كل الحجج التي تدين خروج حزب الله على مشروع الدولة واستخدامه السلاح في خدمة السيطرة الإيرانية على المنطقة، أو في خدمة مشروع دولة المهدي المنتظرالذي لا تجمع عليه المذاهب الاسلامية ولا الأديان الأخرى، أو في خدمة النظام السوري الذي يرمي شعبه بالأسلحة الكيماوية والبراميل المتفجرة، إلى آخر اللائحة الاتهامية بحق سلوكه في الداخل اللبناني ما بعد تحرير الجنوب، وخصوصا ما بعد اغتيال الرئيس الحريري، وسلوكه المتناقض حيال السيادة اللبنانية التي يحميها في مواجهة اسرائيل وينتهكها على الحدود مع سوريا.
جاءت العملية حجة إضافية استخدمها المشككون ليبيّنوا أن حزب الله لا يوظف المقاومة دفاعا عن لبنان بل دفاعا عن نفسه، وأنها ليست لحماية الوطن بل لحماية مشروع الحزب، خصوصا أنه التزم عدم الرد على اعتداءات إسرائيل على لبنان لمدة عشرة أعوام، ولم يخرق موجبات الالتزام بالقرار 1701 إلا حين طاله الاعتداء وطال معه التحالف السوري الإيراني.كما استخدموها دليلاً إضافياً على أن تحرير مزارع شبعا وتلال كفرشوبا لم يعد موضوعاً على جدول عمل الحزب، وخصوصاً بعد انخراطه في الأعمال الحربية داخل سوريا وتورطه مع فريق ضد آخر.
على أن أخطر ردود الفعل هي تلك التي عبر عنها الأتباع والمحبون والمؤيدون. فقد ابتهج المحتفلون بالنصر، وهذا من حقهم، لكنهم اختاروا أشكالا من التعبير تحيل إلى معان ومدلولات أخرى، فهم ، بتوزيعهم الحلوى وأطلاقهم الرصاص في الهواء، كانوا كأنهم يستعيدون الطريقة ذاتها يوم ابتهجوا باغتيال خصومهم أو بنهاية المعارك الداخلية، أو كأنهم يرسخون الاعتقاد بأن الانتصار على اسرائيل هو انتصار للشيعة على سواهم أو لمعسكر الممانعة على المعسكر الآخر.
يستفحل هذا الخطر حين يتم تصوير الفرح كأنه امتياز شيعي وتحويله إلى نوع من الغطرسة ومبالغة باستخدام الأنا والنحن( الشيعة) في مواجهة الآخرين بل وتخوينهم، وهذه أقرب طريق وأفضل سبيل إلى الشحن المذهبي الذي يتزامن مع أحداث ومشاهد أخرى ، من بينها ردود فعل وتعليقات "شيعية" على وفاة الملك السعودي، أو حوارات ساخنة وخارجة عن آداب الكلام يكون أحد طرفيها في كل مرة شيعي أو شيعية.
سلوك الشيعة اليوم في ذروة الشيعية السياسية يشبه سلوك المسيحيين في ذروة المارونية السياسية. لعل المتحمسين اليوم لمشاريع التطرف المذهبي يأخذون الوجوه المضيئة من تجارب سواهم ، ويكفّون عن التعداد ويهتمون بالتنشئة على زرع المحبة وثقافة السلام، وبتقديم الأكثر كفاءة من أجل بناء الأوطان.