لقد كان (وسيم) الذي أخفى اسمه الحقيقي خوفاً على سلامة أقاربه متعباً وفاقداً الأمل تماماً، بعد رحلته من معتقلات النظام إلى جبهات القتال ومن ثمّ إلى تركيا انتهاءً في مناطق سيطرة المعارضة بحلب، وبهدوءٍ يجلس على الأريكة، ويشعل سيجارة، محركا نظره إلى الأسفل، ليحكي قصته:

"في إحدى الدوائر الحكومية كنت أُسيّر معاملتي، عندما قال لي الموظف المسؤول بعد أنّ أجرى مكالمةً هاتفية: (انتظر شوي لبينما يوصل زميلي) .. دقائق مضت وإذ بأربعة أشخاص عصبوا عيني وكبلوا يداي، ووضعوني في سيارة "بيك اب"، وطوال الطريق كانوا يشتمونني وينهالوا علي بالضرب بأقدامهم.. حينها لم أعرف إلى 

أين الوجهة، لكنني كنت أتمنى أنّ نصل بأسرع وقت"، يقول وسيم.
تنهد وتابع حديثه بصوت خافت: "رموني بفرع الجوية، أول ما شافني المحقق قال لي: (أنت إرهابي) اعترف من الخلية التي تشتغل معها؟ ) ثم بدأ يلكمني ويضربني بعصاه على كل مكان بجسدي".

يكشف (وسيم) عن قدمه، وقد بدا الورم عند أسفل ركبته قائلاً: "قضيت يومين بالجوية، بس هل اليومين حسيتهن شهر، شبحوني وعذبوني بالكهرباء، وباليوم التالت عرضو علي التطوّع باللجان مقابل يطالعوني من السجن".

رغم أنه لم يتعرض للتعذيب الشديد كما حال غيره ممن دخلوا "الجوّية"، إلا أنّ تهديده بالقتل دفعه دون تردد للموافقة على العرض، ظناً منه أنّ عدم معرفته استخدام السلاح ستكون حجة كافية له للتهرّب من القتال، لكن المحقق ردّ عليه "ليست مشكلة.. ستتعلم في الجبهة"!

 وسيم في مقر (لواء القدس) الشيعي 
ليس ببعيد عن فرع المخابرات الجوية، اقتاد ضابط يدعى "أبو سامي" الشاب ذو الـ 21 عاماً إلى مدرسة "فرح" في حي جمعية الزهراء، التي أصبحت مركزاً لما يسمى (لواء القدس)،وهو إحدى تشكيلات اللجان الشعبية الشيعية التي تقاتل مع النظام، وهناك قال (أبو سامي) للعناصر:" خدوه.. صار من جماعتنا".

يقول (وسيم):" بصموني بالعشرة على أوراق لا أعرف محتواها ولكني فهمت أنها عقد للتطوع بلواء القدس لمدة ثلاثة أشهر، وأعطوني سلاحا وجعبة وقالوا لي: "روح على البيت وتعا بكرا.. إذا ما جيت منعرف شلون نجيبك ونجيب أهلك".
في تلك الأثناء، لم تكن تدري عائلة (وسيم) أين اختفى ابنها، لكنها صُدمت عند عودته مرتين، المرة الأولى عندما دخل عليهم حاملاً البندقية، والمرة الثانية عندما شاهدوا آثار التعذيب على جسده، وأخبرهم بما جرى ونام مبكراً على الفور".

 وسيم في جبهة حندرات 
في صبيحة اليوم التالي، زُجّ بوسيم في منطقة (حندرات)، التي كانت مشتعلة، بعد أسابيع من اقتحام قوات النظام للمنطقة في الثالث من تشرين الأول/أكتوبر الماضي، "جلسنا طول النهار نفترّج على بعض ونحنا في المقرّ، ما عملنا شي، غير أنه في أحد الشباب علمني كيف ألقم البارودة وأفكها وأعبيها رصاص" يقول وسيم.

لم تكن مهمة وسيم والشباب أمثاله اقتحاميه أو هجومية، بل اقتصر تواجدهم في الخطوط الخلفية. وبالرغم من الأيام القليلة التي قضاها في جبهة القتال إلا أنها كانت كافية ليشرح تركيبة قوات النظام، وكيف تسير المعارك هناك.
فيقول:" في منطقة حندرات لا يوجد أيّ تواجد للجيش، فكل العناصر كانوا من كتائب البعث ولواء القدس، وكثير منهم كانوا مجندين قسراً أو مقاتلون مرتزقة، ولكن كان هناك حول السجن المركزي مجموعات تابعة لسهيل الحسن، أما القوة الأكبر فكانت لـ (ـكتائب الحجاج)".

 كتائب الحجاج
و"الحجاج" هم الكتائب والمجموعات الشيعية التي قدمت من خارج البلاد بدعوى "الجهاد" مع قوات النظام، مثل حزب الله اللبناني وغيره من التشكيلات، يضيف وسيم: " كانت لهم مقراتهم الخاصة، ولا يسمحوا لنا بدخولها، ويعاملوننا باحتقار ويتجنبوا الاحتكاك معنا، أما مهمتهم فكانت الاقتحام ونحن مهمتنا دعم الخطوط الخلفية ".

وعلى الرغم من أنّ عناصر (لواء القدس) يتقاضون ما يقارب 200 دولار شهرياً، في مقابل أنّ متوسط راتب موظفي الدولة يقدر بـ 150 دولار، إلا أنهم كانوا طوال النهار يبحثون عما يمكن سرقته، أما في المساء فيكون حافلاً بسهرات "التحشيش وشرب الكحول" يقول وسيم.

ويوضح:" يتقاضى العنصر منهم مبلغ 22500 ليرة في الخامس عشر من كل شهر ، كما يتقاضوا المبلغ نفسه في أول الشهر عدا عن عمليات السرقة، وفي إحدى المرات طلب واحد من سائق الدبابة أن ينزل عمود الكهرباء، كي يتمكن من سرقة الأسلاك".
لا يقتصر ذلك على المرافق العامة أو المنازل، بل كانت السرقات تجري فيما بينهم أيضاً، ويحكي (وسيم) أنّ أحد العناصر اتصل بشخص يدعى "أبو جعفر" من لواء أبو الفصل العباس ليبيعه بندقيات وذخيرة سرقها من المقرّ المجاور.

قضى (وسيم) ثلاثة أيام في جبهة القتال، لكنه طوال تلك المدة لم ينم إلا بضع ساعات، وعند اليوم الرابع المخصص للاستراحة اتفق مع قائد مجموعته أنّ يعطيه بطاقته الأمنية ليستلم رواتبه المخصصة ويأخذ فوقها 125 ألف ليرة مقابل أنّ يسجله حاضراً كل يوم ويؤمن هروبه.

وفور وصوله إلى المنزل طلب من عائلته الاستعداد للنزوح، وبعد أيام وصل مع عائلته إلى تركيا، هناك فقد الأمل تماماً بعد عشرات المحاولات لإيجاد عمل يعيله وأسرته على تحمل تكاليف لمعيشة المرتفعة، فترك وسيم والده هناك ليتدبر أمور العائلة، وعاد أدراجه إلى حلب.

لا يخفي وسيم رغبته الآن القتال في صفوف المعارضة ضد النظام بعد أنّ خسر جامعته التي لم ينهي سنته الثانية فيها، لكنه يقول بحرقة:" أهم شيء بالنسبة لي الآن هو تأمين حياة كريمة لعائلتي دون أن يتعرضوا للتشرد والذل، فأبي رجل كبير في السن، ولكنني يوماً ما سوف انتقم".

أثناء مبيته في حلب، تلقى وسيم اتصالاً من صديق له في تركيا، يخبره أنه وجد له عملاً في أحد المصانع هناك، لا يبدو أنه متفائل بخصوص ذلك، يقول: "ضاع كل مستقبلي وضاعت كل حياتي التي كنت أبنيها، ولكني سأبدأ من جديد".      المصدر: اورينت نت محمد الخطيب