بالرغم من ان العاصفة “زينة” قد لملمت خلفها اطراف ثوبها الأبيض، وأكملت هي مشوارها مرتحلة بعيدا عنا لا ادري الى اين، ولا اين قد حطت رحالها، إلا ان آثار زيارتها الميمونة إلينا، لا تزال حاضرة بشدة، فالحرارة المتدنية والصقيع الليلي على امتداد الوطن ما برح مقيما عندنا، وبه استطاعت صاحبتنا زينة من تقليص الفروقات بين جميع المناطق وصار الكل يعيش تحت الصفر او فوقه بقليل، متشاركا بذلك الساحل مع الجبل
في هذه الأجواء الباردة.
تحلو “البيتتة” في هذا الطقس وتصبح الصوبا بالقرى خصوصا، نجمة البيت الأولى، وبالاخص اذا ما تزينت بحبات الكستناء السمراء، شرط ان لا تكون صينية المنشأ، لان معاناة تقشيرها حينئذ تكاد تنسيك لذة طعمها، ولا بأس بالكستناء التركية بغض النظر عن موقفك من سياسات رجب طيب اردوغان لانها سهلة التقشير ولذيذة الطعم.
وعند اكتمال العدة واستقرار حالة الدفىء وبدايات فوح روائح الشواء يصبح البحث عن حديث السمر حاجة ملحة مكمّلة للسهرة ولضرورة ملء الفراغ الذي يخلفه طرد الصقيع من الغرفة، وبقدر ما يكون المحدّث لبقا والحديث شيقا وفيه مشحة قصصية من الخيال فيضفي على السهرة شيء من الجمالية المسرحية يتحول معها صوت الريح المتسرب من شقوق الشبابيك الى مجرد موسيقى تصويرية لطيفة وغير مزعجة.
قديما وفي مثل هذه السهرات يكون البطل فيها هو الجد او الجدة، وتكون القصص القديمة وحكايات البيدر والصيد والقضاء على الضبع الذي اكل دجاجات الضيعة او قصص عنتر بن شداد وروايات الحب بين أبو حسين وام حسين وكيف تعرفا على بعضهما وهي تملأ جرتها على العين فشال عنها ثقل ما تحمل فكانت بداية الحب، وما الى ذلك من اقاصيص ممتعة تكاد تنسيك واقع ما انت فيه وتأخذك الى عالم أخر غير عالمك فتمضي ساعات ثلاثة او اكثر بدون ان تدري، تماما كالشعور الذي ينتابك عندما تدخل الى قاعة السينما فتنطفأ الأضواء ويبدأ العرض لتغوص مع مشاهدة فيلم جميل وتعيش بعد ذلك في تفاصيل واقع مختلف وترتحل وانت على مقعدك الى أماكن بعيدة، لا تعود منه الا بعد عودة الانوار الى القاعة مع انتهاء الفيلم، وتبقى بعده للحظات معلقا بين الواقع الحقيقي والواقع والافتراضي قبل ان تستعيد نفسك.
اشهد انني عشت هذا الشعور بدقة وانا استمع في تلك السهرة الكستنائية الى حديث سماحة الأمين العام السيد حسن نصرالله بالأمس، فلا شك ان للرجل مقدرة عظيمة في سرد الاحداث وفي خلق صور مشهدية رائعة، ذهبت معه الى البحرين الى اليمن والعراق.. ركضت في الغوطة الشرقية تحت الرصاص. شاهدت كل قيادات العالم وهي تستجدي بشار الأسد للبقاء بالسلطة، سمعت أصوات الاسرائيلين يولولون ويركضون الى الملاجئ، نظرت الى دموع باراك أوباما وهو يبكي على فشله الذريع، ولا انكر هنا أيضا انني شعرت براحة كبيرة بعد ان تأكدت من زوال خطر داعش واجرامه الإرهابي عن كامل المنطقة، حتى انني شاهدت أبا بكر البغدادي وعصابته مرمين على رمال صحراء الموصل.
ولأول مرة أيضا ومنذ سنوات، عدت اتلمس من جديد صواريخ المقاومة، ولا اخفي انه قد عاد بي الحنين الى أعوام خلت، وكم كانت دهشتي عظيمة وانا اقف بالقرب من “فاتح 110″ مستذكرا لبرهة زمن 107 والغراد الجميل.
واروع ما كان في تلك السهرة الرائعة هي لحظة ان هممت بالدخول سيرا على الاقدام الى منطقة الجليل المحتل، متخطيا الأراضي اللبنانية من ناحية بوابة فاطمة على تخوم كفركلا، فما كادت تطأ قدمي تلك الأرض المقدسة حتى عاجلني (سامحه الله) صديقي الجالس بقربي بصوته وهو يصرخ في وجهي كي التقط حبة الكستناء، وهذا ما حدث فعلا، تناولتها من بين يديه وهو يقلبها ذات اليمين وذات الشمال، حتى ما احسست انا بسخونتها في يدي، عدت الى الغرفة سريعا فضاعت مني فرصة زيارة الجليل.