لا صوت يعلو فوق صوت دوي الإنفجارين الإرهابيين الذين أعادا إلى الذاكرة اللبنانية المتهمة بالقصور، مشاهد التفجيرات المتنقلة التي هزت لبنان من أقصاه إلى أقصاه على مدى السنوات الماضية، ولم تستثن لا طائفة ولا مذهبا ولا لونا سياسيا ولا جماعة موالية أو معارضة. ولا مشهد يوازي مشهد الدماء الحمراء القانية التي سالت من أوداج الضحايا التسع من الشهداء، وما يناهز الأربعين من المصابين والجرحى.
بالمقابل، لم تسعف البرودة القطبية القارسة لثلوج «زينة» أو «هدى» أن تقلل من هول وسخونة ورعب المشهد الدامي، ما يؤشر بحسب مصادر متابعة للملف الامني، إلى أن يد الغدر والإرهاب تصر على إبقاء «الجبهة اللبنانية» مشتعلة، وتكرس معادلة اللاسلم واللاحرب، وبالتالي، وبغية الحفاظ على هذه المعادلة، يصبح سقوط العشرات من الضحايا هنا وهناك «خسائر هامشية»، لا تلتفت إليها السياسات الكبرى.
التفجير جاء على إيقاع مجموعة من الأحداث، داخلية وخارجية، تضيف المصادر، ففي حين يعيش العالم واقع صدمة «شارلي أيبدو» المقلقة، والتي حاول فيها «تنظيم الدولة» الذي تبناها، باسم غزوة باريس، بزعمه «الدفاع عن رسول الله» أن يكرس نفسه حاملا لواء الجهاد التكفيري العالمي، وتصوير نفسه عملاقا يستطيع أن يضرب متى شاء، دون ان تكون أي دولة في العالم في مأمن من ضرباته المؤلمة، مهما علا شأنها، ما يجعل من الفوق مهم استمرار التحالف الدولي ضد تنظيم الدولة وملحقاته وأشباهه، والدليل المسيرة الدولية الجمهورية غير المسبوقة التي جرت في باريس، بمشاركة أكثر من خمسين من قادة الدول.
في سياق متصل، لفتت المصادر نفسها إلى قيام السفير البريطاني في لبنان طوم فليتشر، المعروف جدا لدى اللبنانيين بقربه منهم والتواصل معهم على مواقع التواصل الإجتماعي. بقيامه بإعادة نشر وتغريد جملة من خطاب السيد حسن نصرالله الأخير الذي ألقاه بمناسبة ذكرى ولادة الرسول الأكرم ويوم «جمعية الإمداد»، جاء فيها: الخيار الوحيد لدينا هو أن نعيش معاً، نتفق معاً ونتحاور.
وقالت المصادر «الكل يعلم أن لا شيء يمر في الإطار السياسي والديبلوماسي بدون ثمن سياسي، أو رسالة، سائلة إن كان ذلك إشارة إلى إعجاب السفير فليتشر بخطاب السيد نصرالله، أم أن هناك ترتيبا دوليا جديدا، يقضي بحشد جميع الجهود لمحاربة الإرهاب، ومن ضمن تلك الجهود، تجنيد الحركات الإسلامية «المعتدلة» التي تتبنى طروحات سياسية مقبولة، وتحافظ على قواعد الإشتباك الدولي، أو تعمل في إطار دول، ضمن الجهد العالمي لمكافحة الإرهاب. عند ذلك، تضيف المصادر، يصبح السيد نصر الله، ومن خلفه حزب الله، أحد أذرع «القوة الضاربة»، كونه ليس بحاجة إلى «أي تدريب أو تسليح»، بل إن في حضوره على الأرض قيمة مهمة جدا، تريح الدول الغربية من عبء إحضار آلاف من المقاتلين إلى «الشام».
ولفتت المصادر أيضا إلى مرور تقرير صغير على شبكة «السي أن أن»، يتناول بشكل من الإيجابية القليلة، لكن غير المسبوقة، الخطاب الأخير للسيد نصر الله، والذي اتهم فيه من يقوم بالأعمال الإرهابية بأنه ضد الإسلام، وأنه يطعن في الدين ويسلبه، وأنه عدو للدين صريح. والذي وصف الممارسات بالمنفرة والقاسية والمتوحشة.
وشددت المصادر على أهمية أن يقول قادة أحد أبرز التنظيمات الإسلامية المعاصرة أن سلوكيات هذه الجماعات «من خلال اقوالها وافعالها وممارساتها المشينة الشنيعة والعنيفة واللانسانية والوحشية، اساءت الى رسول الله والى دين الله والى انبياء الله والى كتاب الله والى امة المسلمين اكثر مما اساء اليها اعداؤها»، ويقول «هؤلاء أساؤوا إلى رسول الله كما لم تتم الاساءة إلى رسول الله طوال التاريخ»، وقوله «حتى هؤلاء الذين قاموا بالاعتداء على رسول الله من خلال تأليف كتب مسيئة وصنع افلام ووضع رسوم مسيئة للرسول»، مشيرة إلى الأهمية القصوى لخطاب السيد لما له من حضور على الساحة الإسلامية السياسية، وفي إطار الإسلام السياسي العالمي.
وتوقعت المصادر أن ينعكس المشهد السياسي الدامي في جبل محسن، والصاخب في باريس، تقاربا أكثر بين مكونات «الإعتدال الإسلامي»، وانفتاحا أكثر من الدول الأوروبية، بحيث يمكن أن يتكون محور جديد عنوانه مكافحة الإرهاب التكفيري، يضم مكونات إسلامية متعددة، وجيوشاً إسلامية، ليستبدل، على مراحل، «الإعتدال العربي»، الذي لم ينجح في حل الكثير من الملفات التي تعرض لها، وغرق في بورصة النزاعات السياسية والتشفي الشخصي من بعض الرموز والقادة، وبعد فشل «دول الإعتدال» في التعاطي مع الملفات المتفجرة، و«صمود» محور المقاومة والممانعة، ليصل إلى مرحلة الهجوم المضاد، والشراكة في فرض مشروع الحل.
وعن التفجير الأخير في طرابلس، والمشهد الدامي، وضعت المصادر الملف في إطار إشارات من «جبهة النصرة» بأننا موجودون، وأن الجهاد التكفيري العالمي بفرع «القاعدة» يحاول فرض نفسه وجودا ضمن لعبة المساومات والمفاوضات، مشيرة إلى التوقيت المريب للموضوع، وتزامنه مع عودة رئيس الحزب العربي الديمقراطي، واحتفال سكان «الجبل» بعودته، فصوبت «النصرة» على قلب الجبل، في تفجيرين إنتحاريين، بعد أن نزعت الخطة الأمنية، ذات الرعاية السياسية المعروفة الشاملة، فتيل الأزمة المستمرة، والمتعلقة بالمحاور وقادتها. وبالتزامن مع فرض الجيش اللبناني أشد حصار على الجماعات المسلحة في جرود عرسال وتضييق الخناق على أي محاولة للتشويش على التماسك الداخلي في إطار الوطن، ومؤسسة الجيش.
خلاصة القول، تختم المصادر، إن ما قبل «خطاب السيد» ليس كما بعده، وأن لبنان، رغم اعتماده سياسة النأي بالنفس، وعدم التدخل، فإنه، شيئا فشيئاً وبرغبة إقليمية ودولية، سيجد نفسه في قلب الجهد العالمي ضد الإرهاب، بكل ما أوتي من قوة، ومعادلات صعبة، تتوافق أكثر وتبرز، في الزمن الصعب