كثير من المراقبين آثروا ان يرصدوا بدقة الجلسة الثانية من حوار "حزب الله" - "تيار المستقبل" والمناخات التي ستخيم عليها لكي يكون بامكانهم ان يرسموا معالم أولى لخريطة الطريق المستقبلية لهذا الحوار، وان يستشرفوا آفاقه ومؤداه وذلك انطلاقاً من اعتبارات ثلاثة:
الاول: ان الجلسة الاولى لأي حوار بين طرفين متخاصمين تعني إقرارهما بالعودة الى خيار البحث عن تفاهمات، وهي غالباً ما تكون للصورة وقد تنطوي على كثير من المجاملات، اي انها ليست كافية لسبر أغوار هذا الحدث المهم بكل المعايير وللتجرؤ على اصدار الاحكام عليه.
الثاني: ان ثمة رموزاً تبدو عادة وكأنها تمتلك كلمة السر في ملعبها السياسي، آثرت ان تستبق الحوار باطلاق فيض من التصريحات والمواقف التي قللت مسبقاً قيمة هذا الحوار الى درجة انها أشاعت مناخات فحواها أن الحوار المرتقب هو من باب لزوم ما لا يلزم.
الثالث: لم يكن جلياً ومحسوماً بعد ما اذا كان هذا الحوار يحظى بالغطاء الاقليمي المنشود، او انه ينال مباركة المرجعيتين الاقليميتين المعروفتين لكلا الطرفين، الى ان صدر عن طهران والرياض لاحقاً ما يظهر انهما على علم بكل شاردة وواردة وانهما تشجعان على هذا الأمر.
وبناء على كل هذه المعطيات والمقاييس، فان هؤلاء المراقبين خرجوا بعدما تناهت الى علمهم طبيعة الاجواء الايجابية التي سادت الجولة الحوارية الثانية في عين التينة بين ممثلي الطرفين وما دار فيها من نقاشات تمحورت على مسألة تدعيم الاستقرار الامني كمدخل لازم من مداخل بند تبديد الاحتقان السياسي الذي كثر الحديث عنه باعتباره مهمة عاجلة وربما حصرية للحوار، وذلك من خلال إقرار ما من شأنه إزالة بؤر التوتر ونقاط الاحتكاك في العديد من المناطق، بجملة استنتاجات أبرزها:
- ان الحوار ليس ذا طبيعة سطحية او انه لن يتعدى القشور كما توهّم البعض أو كما حرص البعض على اشاعته غداة انطلاق قاطرة هذا الحوار، إذ ان الطرفين ما لبثا ان ولجا الى صلب بنود خلافية ذات طبيعة بالغة الحساسية وسرعان ما أوجدوا تفاهمات حولها الى درجة يمكن القول إن الجانبين طويا صفحتها وانهما تفاهما على سحبها من مواد السجال والخلاف ولاسيما موضوع "سرايا المقاومة".
- وفي المعطيات التي رشحت عن بعض مشاركين في الحوار، ان ممثلي "تيار المستقبل" لم يتوقفوا طويلاً عند هذا الموضوع، أو بمعنى آخر لم يصروا على جعله قضية خلافية من شأنها ان تقود الى تفجير الحوار أو تعثره انطلاقاً من اعتبارات عدة، أبرزها ان "السرايا" موجودة منذ النصف الثاني من تسعينات القرن الماضي وهي جزء لا يتجزأ من اداء المقاومة واستراتيجتها ومن شبكة الامان المحيطة بها، أي أنها مكوّن أساسي من مكونات موضوع تمّ التفاهم سلفاً على عدم ادراجه في جدول أعمال الحوار.
- وفي المقابل فان "حزب الله" وكبادرة حسن نية أكد ان هذه "السرايا" المنتشرة في أكثر من منطقة وتضم منتسبين ينتمون الى معظم ألوان الطيف الديني في لبنان، ستكون مشمولة بالخطط الأمنية الرسمية التي تمّ التفاهم على تجديد تنفيذ مندرجاتها وتأمين ديمومتها.
وأبرزت جلسة الحوار الثانية أن ثمة التزاماً جلياً بجدول الاعمال الموضوع سلفاً لهذا الحوار، فمدخله كان العمل على تبديد الاحتقان وهذا ما حصل، فضلاً عن ان الجميع لمسوا تراجع الحملات الاعلامية والسياسية المتبادلة بين الطرفين والتي عاشت الحياة السياسية على وقعها ودويها أعواماً عدة، اضافة الى ان الطرفين حددا موعداً سريعاً للجولة الثالثة من الحوار (في 16 الشهر الجاري) ما يدل على أن الطرفين عازمان على تكريس الحوار "مؤسسة" تمتلك آليات عمل واضحة وممنهجة.
ويتضح أيضاً من جولتي الحوار ان ثمة ارادة صلبة لدى طرفيه لاسباغ مناخات ايجابية على الحوار وازاحة كل ما من شأنه تعكير صفوه أو التقليل من قيمته حاضراً ومستقبلاً.
ربما لم يعد جديداً القول ان قيادة "تيار المستقبل" بعثت سلفاً لمن يهمهم الأمر برسالة مضمرة يؤكد فحواها حرص هذه القيادة على المناخات الايجابية وعلى الرغبة في نتائج ايجابية تصدر عن هذا الحوار في خاتمة المطاف، وذلك من خلال اختيارها حوارياً وجده المراقبون والمعنيون أنه ينطق بلسان مرجعية واحدة معينة في داخل التيار الأزرق.
وثمة أكثر من مؤشر من خلال مندرجات النقاش في جولتي الحوار على أن الطرفين يقيمان على ارادة مشتركة لبناء حد أدنى من مناخات الثقة بينهما، وهذا واضح إن من خلال الالتزام شبه الكلي بعدم "شرشحة" الحوار عبر التسريبات المعتادة الى الاعلام، او من خلال الاسراع في تحديد موعد عاجل لجلسة الحوار الثالثة لا يبعد أكثر من عشرة أيام عن موعد الجلسة الثانية، وإن من خلال عدم التوقف أمام تصريحات صدرت عن بعض الرموز المدرجة عادة في خانة الصقور والتي دأبت على اصدار مواقف نارية ضد الخصم حتى صار ذلك جزءاً من دورها ووظيفتها.
ولا ريب في أن قيادتي الطرفين بدأتا تتلمسان حالات الاسترخاء التي أخذت تسري في قواعد الطرفين منذ الجلسة الافتتاحية لرحلة الحوار، فضلاً عن شعورهما بأن الحوار نفسه هو من فتح موسم الحوارات الواعد في الشارع المسيحي، إذ أن مجرد انعقاد الحوار بين هذين الطرفين الاسلاميين ازال تلقائياً كل معوقات الحوار بين "التيار الوطني الحر" وحزب "القوات اللبنانية"، اذ لا يمكن هذين الطرفين المتخاصمين ان يصما بعد ذلك آذانهما عن الدعوات التي تلقياها من الجمهور المسيحي على اختلاف توجهاته للمضي قدما في حوار مواز لحوار عين التينة وانتاج ايجابيات في ملفات معينة، كما صار مؤكداً ان التيار الأزرق والحزب صاحب الراية الصفراء لا يمكنهما إلا ان يخرجا في خاتمة المطاف بايجابيات، فالعودة من رحلة حوارهما بصفر نتيجة أمرّ لم تعد جائزة لا شرعاً ولا اخلاقاً.