لا تزال تداعيات الهجوم الأعنف من نوعه منذ أربعين عاماً، الذي شهدته العاصمة الفرنسية باريس، على صحيفة "شارلي إيبدو" مستمرة، ميدانياً وسياسياً.
باشرت عواصم العالم الاستنكار، وامتدت الموجة إلى مواقع القرار الكبرى والمحلية، وساد الوجوم في المحافل السياسية، وانشغل الإعلام في التغطية المباشرة وتعقّب المعلومات، وفي التحليل الأولي ومحاولة سبر الأغوار واستقصاء الأبعاد والتداعيات.
وفي غمرة هذا الحدث، أمكن التوقف عند الملاحظات الآتية:
ــ أن صحيفة "شارلي إيبدو" تحمل سجلاً حافلاً وطويلاً من الإساءة إلى الدين الإسلامي وإلى نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، وأنها لم تحفل بكل الوسائل الديمقراطية في الاحتجاج على الاعتداء على الإسلام ونبيه، بل إنها استمرت في هذا التوجه، واتخذته سبيلاً للشهرة والعوم في عالم الصحافة.
ــ أن هذا الاعتداء المتواصل على الإسلام من الصحيفة لم يحظ بأدانة واضحة من أي موقع أو مرجع، بل إن هذا النوع من الاعتداء بات "طبيعياً" تحت ستار حرية الرأي.
ــ ان التغطية السياسية والإعلامية، في كثير من المواقف اقتصرت على إدانة الهجوم على الصحيفة المعتدية على الإسلام ونبيه، من دون أن تترافق إدانة الهجوم، مع إدانة الاعتداء على الإسلام، باعتبار أنه عمل شنيع، يمس كرامة أمـة ممتدة في زوايا الأرض الأربعة، وأنها تعرضت للإهانة والمس بكرامتها، جراء ممارسات الصحيفة ومثيلاتها من صحف ومواقع ووسائل إعلام أخرى امتهنت هذا التوجه.
وحرية التعبير هذه لا تعود لها قيمة أو اعتبار عندما تصبح المصالح الصهيونية في الميزان: فعندما قام أحد رسامي الكاريكاتور في مجلة "شارلي إيبدو" بإبداء تعاطفه مع الشعب الفلسطيني خلال الحرب على غزة عام 2008، كان مصيره الطرد، بتهمة معاداة السامية.
ــ بادر الإعلام الممانع إلى تكرار نظريته الممجوجة، بالتذكير بأن فرنسا طبخت سُمّ الإرهاب، وهي اليوم تأكله، وذلك فإن الحل الناجع هو في العودة والتوبة والاعتذار من نظام الطاغية بشار الأسد، ومباشرة التعاون معه لمكافحة الإرهاب، وتجاوز كل جرائمه الكيماوية و "البراميلية" تحت هذا الشعار.
ــ لا يمكن النظر إلى هذا الهجوم دون الغوص في أسبابه وتفاصيله: فكيف تمكن المهاجمون من الاستحصال على هذه الأسلحة، ومن تنفيذ الهجوم ومن المغادرة والتواري، رغم وجود تهديدات معلنة للصحيفة باستهدافها، ورغم حصول محاولات سابقة لإحراقها..
السؤال هنا: هل لهذا الهجوم علاقة بموقف فرنسا الصارم ضد نظام بشار الأسد، وإصرار الرئيس الفرنسي فرانوسا هولاند على عدم التطبيع معه أو إعادة تأهيله إقليمياً ودلياً؟
وهل سيكون من نتائج هذا الهجوم إحداث تحوّل في السياسة الفرنسية على هذا النحو، لتسير في السياق الأميركي الملتبس والمتواطئ فعلياً مع بشار الأسد ومجموعته المتمسكة بالحكم ولو على أنقاض سوريا.
إلا أن الموقف الإيراني هو الموقف الأغرب، حيث أدانت طهران عملية باريس، لكنها لم تبدِ أي اعتراض على عدوانها على النبي صلى الله عليه وسلم، وفي الوقت نفسه، لم يصدر عن حزبها في لبنان أي إدانة، بل ذهب إعلامه إلى الشماتة، وإلى العزف على تقاسيم نظام بشار الأسد، من حيث النتيجة والمسار.
في المقابل، نرى انه لا يمكن تجاهل مسؤولية الدول العربية والإسلامية في مواجهة الموجة المضادة للإسلام في الغرب، حيث بات المسلمون هناك متروكين وحدهم، يواجهون التحديات والصعاب، وهذا يستلزم وضع شيء من خطاب تبادل المصالح في الميزان، لصالح ضرورة إحداث توازن يحفظ الوجود الإسلامي في الغرب، بالتوازي مع ضرورة اتخاذ المسلمين في تلك الدول خطوات رائدة ترتقي إلى مستوى خطورة المرحلة، وتمكنهم من الحفاظ على الثوابت والمصالح في آن معا.
أخيراً، إن الهجوم على صحيفة "شارلي إيبدو" أمر لا يمكن تبريره أو تأييده، لكنه يأتي في سياق يجدر بالجميع فهمه، وهو أن التعرض الدائم للإسلام والتهميش المستمر للمسلمين، واتباع سياسات تدعم الديكتاتوريات، وتنتهك الحريات، لن تقتصر آثاره وسلبياته على دولٍ بعينها.. وما حصل يستوجب إعادة النظر في مقاربة العلاقة مع المسلمين، وفي معالجة القضايا التي تخص الإسلام.
هجوم باريس، قد لا يكون الوحيد، وكرة النار الملتهبة تتدحرج بين العواصم، والحل الوحيد الناجع، السعي إلى العدالة والسماح بالديمقراطية والحرية الحقيقية لا الانتقائية، لأن البديل سيكون نسخاً سوداوية من أربعاء باريس الأسود.