أُكذِّبُ كلّ مزعمٍ بأنّ الميت يشعر، وأفترضُ أنّ طفلاً صَرَعه البرد استراح الآن. كيف يكون الشتاء خيراً على أرضٍ ولعنةً على طفل؟
لستُ الله لأبتسم بينما أفكِّر في جواب. سأكون صغيراً تجمَّد حتى الموت.
وأسناناً وقعت من فرط الرجفة. هبَّت العاصفة لتكون نعمة أم نقمة؟ لتُبشِّر بالخير أم لتفضح البؤس؟ ما نفع هذا الهراء؟
هذه الأسئلة الميتة؟ أغمِضُ عينيّ الطفل البارد. أرسم له على بخار النافذة قبراً دافئاً.
لن أتركه وحيداً الليلة، ولن أسمح لأحدٍ بأن يتفحَّص تجمُّده ليصدِّق أنّ طفلاً يموت من البرد. سأحرسه لئلا تقضّ سكينته معزوفة "أين العدل وأين الضمير وأين الغيارى على الإنسان؟"، فتوقظه من موته.
بماذا أجيبه إن تساءل لماذا هذه الظلمات؟
لا أملك ما ينير قبور الصغار.
حتى الشموع باتت لها وظيفة أخرى غير رجاءٍ على أضرحة الموتى.
طالت الطريق من بيت جن الى شبعا، وطال ألم تحمُّل الطبيعة. نكبة الإنسانية حين يموت أطفالٌ من البرد. لعلّ الصغير استغاث طالباً بطّانية، فلَعَن والده السماء.
ثم نظر الى عينيه فوجدهما مِن زجاج مكسور.
لا تنفع بطانية حين يغضب الله يا صغيري.
أنّى لي إحضار موقدةٍ الآن، أو جدرانٍ أقلّ صقيعاً من هذا العراء؟
أنّى لي أن أقذف العاصفة الى مكانٍ سكّانه ليسوا ضحايا حرب؟
تحمَّل بعض الشيء أيها البطل، ها إننا قد نصل في يومٍ ما. بدأ الولد يتّخذ وضعية الجمود.
تشنّج الجسد وما عاد طرياً كما كان. حدّدت العينان الصورة الأخيرة قبل الموت. راحت تحدّق بالأب وتقول الى اللقاء.
أبي حبيبي، لِم أنجبتني لأُفجِعَك بي؟ لِمَ تشرَّدنا؟ لِمَ كانت الحرب؟ أُخلِّصك باكراً من موتي الآتي في كلّ آن.
عبءٌ أزيله عن كاهلكَ، فتُكمِل سيركَ بقليلٍ من الحِمْل. فجأة تشتدّ الريح.
تصفُر منذرةً بمأساة. تفيض روح الصبي على الفور. لقد متُّ يا أبي. تجمَّدت.
ازرقّ لساني. اصفرّ جسدي. انتهكتني الأشباح. متٌّ لأنّ الإنسان المسحوق يموت قبل الأوان. لأنّي ابن الأوطان المدمَّرة والعائلة الشريدة.
متُّ لأنّ الدفء مستحيل والخيمة باردة. باردةٌ مثل الضمير في هذا الطقس. أخبار ذات صلة الصورة المأساة:
البرد أنهى حياة هذا الصغير سيُدفَن الطفل ويُهال عليه التراب مجبولاً بالصقيع الذي قتله.
وبالمعركة والمجهول السحيق. كلّ هذا البركان في الأرجاء، ولا موقدة تُنقِذ روحاً جميلة. أحياناً، لا خلاص إلا بالموت.
بقلم: فاطمة عبد الله