خلال أقل من شهر واحد، زار بطريرك انطاكيا وسائر المشرق للموارنة بشارة الراعي منطقة البقاع الشمالي مرتين. تلك سابقة لم تُسجل لأي من أسلافه من قبل، وغالبا ما تكون زيارات رئيس الكنيسة الأهم في لبنان شحيحة، فهو عادة يستقبل الشخصيات والوفود في بكركي، ولا يتجول إلا وفقا لأجندة تحكمها اعتبارات البروتوكول والمصلحة المسيحية والوطنية.
تشير صحيفة "الأنباء" الى أنّ البطريرك الراعي أرسى مقاربة جديدة، وسجل رقما قياسيا في عدد زياراته الداخلية والخارجية منذ توليه المسؤولية في 2011/3/15.
زيارة البقاع الثانية نهار الاحد في 2014/12/28 حملت مجموعة من الرسائل، وكانت لها دلالات سياسيّة وروحيّة عدّة، وهي أعقبت انتهاء شبه القطيعة التي كانت قائمة بين بكركي وحزب الله، بعد زيارة التهنئة بالاعياد التي قام بها وفد كبير من الحزب الى بكركي تقدمه رئيس المكتب السياسي إبراهيم أمين السيد، وليس غالب أبو زينب وفقا لما جرت العادة.
قصد الراعي عائلات شهداء الجيش اللبناني - الذين سقطوا أخيرا على يد المنظمات الارهابية في القلمون - للتعزية، في بلدات طليا ويونين والبزالية، وهي مناطق يتمتع فيها حزب الله بنفوذ واسع، كما التقى أهالي الضحيتين المسيحيتين من آل فخري في قرية بتدعي، وهما زوج وزوجته قُتلا على يد عصابة مسلحة ينتمي أفرادها الى عشيرة آل جعفر الشيعية منذ أكثر من شهر، ومازالوا فارين من وجه العدالة.
بطبيعة الحال زيارة الراعي تدل على التضامن مع الجيش اللبناني والقوى الأمنية الشرعية الأخرى، وتؤكد على أهمية دورها في حماية البلاد في هذه المرحلة بالذات. ولجولته البقاعية دلالات واضحة في شد أزر المواطنين المسيحيين في المنطقة، وهؤلاء انخفضت أعدادهم في القرى البقاعية، وجاءت حادثة بتدعي لتزيد من مخاوفهم أكثر فأكثر، لاسيما أن الجناة مازالوا طليقي الحركة، ولم تتمكن القوى الأمنية من إلقاء القبض عليهم، ولا عشيرة آل جعفر أقدمت على تسليمهم، رغم أنها استنكرت فعلتهم الشنيعة، والراعي أكد في بتدعي موقفا يحمل شيئا من التشجيع والقوة في آن، عندما أعلن أن لا مصالحة من دون عدالة.
ولكن الدلالات السياسية لزيارة الراعي كانت هي الأهم، واستنتج المراقبون مجموعة من الرسائل قصد سيد بكركي إيصالها من خلال الزيارة.
أولا: لفتته في توجيه التحية الى شهداء الجيش والمقاومة الإسلامية، تعتبر تطورا سياسيا كبيرا في موقف بكركي، حيث ان الأدبيات السياسية للمرجعية المارونية عادة لا تستخدم هذه العبارات، وقد تنبهت لهذا الأمر قوى14 آذار وانتقدت علنا هذه الإشارة البطريركية. البعض وضع لفتة البطريرك تجاه المقاومة بأنها عبارات فرضتها المجاملة لعائلات الشهداء الذين يدورون في فلك حزب الله، أما البعض الآخر، فقد اعتبرها تطورا سياسيا واضحا تبرره المصلحة الوطنية العليا، ومصلحة المسيحيين على وجه الخصوص، والراعي قصد طمأنة حزب الله بأن الوسط المسيحي ليس معاديا له بالمطلق، وتشبث الحزب بالعماد ميشال عون كحليف وحيد، ربما ليس بمحله.
ثانيا: لاقى الراعي حزب الله في منتصف الطريق فورا، بعد أن كان اتهمه علنا بعرقلة انتخاب رئيس جديد للجمهورية، من جراء عدم حضور نوابه وحلفائهم لجلسات مجلس النواب الـ 17 التي حصلت منذ أيار الماضي. ورد التحية ربما يستند الى معطيات منها معروف ومنها غير معلن، ومعظمها يتعلق بملف انتخاب رئيس جديد للجمهورية.
في المعطيات الجديدة المعروفة في ما يتعلق بالملف الرئاسي اللبناني، المساعي التي يقوم بها المبعوث الفرنسي جان فرنسوا جيرو بهدف تأمين توافق سعودي - إيراني على تسهيل عملية الانتخاب، وهو سيزور طهران والرياض قبل 7 يناير، الموعد الجديد لجلسة انتخاب الرئيس.
أما في المعطيات غير المعلنة، فهي اندفاعة حزب الله في معايدة المسيحيين هذه السنة بالميلاد المجيد، على غير الطريقة التقليدية التي درجت عليها العادة، لاسيما تجاه رجال الدين، وباتجاه بكركي بشكل خاص، فالمسؤولون المحليون في الحزب قاموا بزيارات تهنئة لمطارنة المناطق، كما أن نائب الأمين العام لحزب الله الشيخ نعيم قاسم أقام عشاء تكريميا للفعاليات المسيحية، وأعلن أمامهم الاستعداد للتضحية من أجل عدم إبقاء موقع الرئاسة شاغرا، وتلك إشارة واضحة على إمكانية البحث عن توافق على شخصية محايدة للرئاسة، برغم تأييد الحزب العلني للمرشح العماد ميشال عون.
بالمقابل لا يمكن التخفيف من دور حزب الله في إمكانية الانفراجة الرئاسية، لأن امتناعه عن حضور جلسات الانتخاب، وتمسكه بالعماد عون مرشحا وحيدا هما السبب الرئيس - إن لم يكن الوحيد - في عدم انتخاب رئيس جديد.
فهل يملك البطريرك الراعي بعضا من معطيات المفاوضات السرية التي جرت أخيرا بين طهران وحارة حريك، وبين أطراف حوار عين التينة الفاعلين، وهو يريد تسهيل مهمة هذه المساعي، ومهمة الساعين من خلال مواقف التقارب والاطمئنان التي أطلقها في البقاع؟