كثيرة هي العناوين والمصطلحات التي تشير إلى تعدّد الاجتماع اللبناني وتنوّعه؛ فالمؤرخ كمال الصليبي عَنْوَنَ أحد كتبه بـ «بيت بمنازل كثيرة»، والصحافي سركيس نعوم طالما استخدم مصطلح «الشعوب اللبنانية» في مقالاته الصحافية. واليوم، يُطلق الكاتبان حازم صاغية وبيسان الشيخ عنوان «شعوب الشعب اللبناني» على كتابهما الجديد (عن دار الساقي في بيروت)، وهو يتناول تحوّلات الاجتماع اللبناني في زمن الحرب السورية. وإذا كان سركيس نعوم يُطلق المصطلح من دون تقييد، مشرعا إيّاه على الانقسام الشعبي والمجتمعي، فإن التعدّد الذي يوحي به الصليبي في كلمة «منازل» يبقى مقيّدًاً في إطار الوحدة التي تحيل إليها كلمة «بيت»، ومثلُهُ يفعل صاغية والشيخ حين يقيّدان التعدّد الذي توحي به كلمة «الشعوب» بالوحدة التي تشير إليها كلمة «الشعب». وبذلك، يحفظ أصحاب العنوانين المذكورين خط الرجعة.
«شعوب الشعب اللبناني» يتناول واقع الاجتماع اللبناني المفتّت بين الطوائف والمناطق، ويضيء المقدّمات التاريخية الممهّدة لقيامه، وما رافقها من تحوّلات على الصعد كافّة، سلبية أو إيجابية، ومن تغيّر في مراكز القوى وعلاقات السلطة داخل الطائفة أو المنطقة، كما تتبلور في الاجتماع المديني غالبًا. وهي لكثرتها تبدو كرمال متحرّكة في هذه المنطقة من العالم. والكتاب يتألف من تقديم مختصر، وثلاثة عشر تحقيقًا، هي حصيلة ثلاث عشرة جولة ميدانية، قام بها الكاتبان في المدن والمناطق اللبنانية المختلفة، بين أوائل 2013 وأواسط 2014، أي خلال سنة ونصــف السنة، ونُشرت تباعًا في جريدة «الحياة». وتتوزّع هذه الجولات بوتيرة جولتين اثنتين في كلٍّ من محافظات الجبل والبقاع والنبطية، ثلاث جولات في محافظة الجنوب، وأربــــع جولات في محافظة الشمال، فيما لم تنل محافظة بيروت أية جولة. وثمة منـــاطق شهدت تحوّلات أدّت إلى فقدانها الدور الذي لعبته عبر التاريخ كمنطقة وادي التيم بجـــزءيها الأعلى والأسفل، وأخرى تحاول اليوم لعب دور ما بحكم الموقع الجغرافي كمنطقة عكار لم تشملها الجولات. مع العلم أن الكتـــاب لا يحدّد معايير اختيار المدينة أو المنطقة موضوع الجولة / التحقيق.
يُشكّل العمل الميداني مصدرًا أساسيًّا من مصادر الكتاب وأداة معرفية لسبر غور الواقع المتحرّك، وتتمظهر هذه الميدانية في: الزيارة، والشهادة الحية، والعيان، والسّماع. يُضاف إلى هذه الأدوات معرفة جيوسياسية بالمكان، إطّلاعٌ تاريخي، حسٌّ مرهف بالتحوّلات، نظرة ثاقبة إلى الأمور، قدرة على التوصيف والتشخيص، وامتلاك مهارات القراءة والتحليل والمقارنة والربط والاستنتاج وتجريد التعميمات والملاحظات الدقيقة. وغنيٌّ عن التعبير أن بعض هذه الأدوات يتعلّق بالمادّة الأوّلية للكتاب، وبعضها الآخر بتصنيع هذه المادّة لتأخذ شكلها النهائي. وهكذا، تتشكّل تلك المادّة من الواقعة الجغرافية والمعلومة التاريخية والخبر الصحافي والمقابلة الحية ومحتويات المكان والعادات الوافدة والحراك الديموغرافي... وتمرّ عبر المهارات المشار إليها اختيارًا وتهذيبًا وتشذيبًا وتحليلاً ومقارنةً وربطًا واستنتاجًا، لتأخذ شكل تحقيق صحافي متنوّع يتجاور فيه الجغرافي والتاريخي والسياسي والاجتماعي والديني والثقافي والأدبي... وبذلك، نكون أمام حقول معرفية مختلفة في الحيِّز الواحد.
يعتمد الكاتبان صاغية والشيخ مخطّطًا يكاد يكون مشترَكًا بين معظم التحقيقات؛ فهما غالبًا ما يبدآن بمدخل يُصوّر واقع الحال، يتناول تغيير بعض معالم المدينة وإبدال تمثال بآخر (طرابلس)، أو الصور المرفوعة عند مدخلها (النبطية)، أو إحدى شخصياتها التاريخية (زغرتا)، أو واقعة نقل نشاط معيّن إلى منطقة أخرى (بعلبك)، أو المقارنة بين منطقتين (الشوف)، أو تحليل الشخصية العامة (جزين)... ويُشكّل المدخل مفتاحًا للتحقيق يومىء إلى الهوية السياسية أو «الحضارية» أو الواقع الاجتماعي أو الموقع الجغرافي أو الموقع الاستراتيجي...
يلي ذلك عرضٌ تاريخي لتحوّلات المكان وعلاقات السلطة فيه استنادًا إلى ثقافة الكاتبين ومعرفتهما التاريخية والسياسية، وإلى شهادات حيّة لبعض شخصياته. وهذا العرض المختصر أقرب إلى المقدّمات التي أدّت إلى الواقع الراهن للمدينة او المنطقة. وإذا كان العرض المستند إلى ثقافة الكاتبين أحاديًّا يعكس قراءتهما الخاصّة للأحداث والتحوّلات أو يستعيد وقائع تاريخية معروفة، فإن ذاك المستند إلى الشهادات الحيّة ثنائيٌّ يحرصان فيه على تقديم وجهتي النظر، المؤيّدة والمعارضة، محقّقين بذلك نوعًا من التوازن الذي تقتضيه الموضوعية الصحافية. على أن ذلك لا يعني إلغاء شخصية الكاتب ورأيه وقبول كل ما تدلي به الشخصية الشاهدة، لذلك يقطع الكاتبان الشهادة بتعليق أو تعقيب أو استدراك أو ملاحظة، وقد يصفان الشكل وطريقة الكلام والنبرة، ولا بد أن يتسرّب من خلال ذلك تعاطفهما مع هذه الشهادة أو تلك، وتفاعلهما مع هذا الرأي او ذاك، في الحدود التي تُجيزها اللعبة الصحافية ولا تفقد المضمون موضوعيته.
خلال الآليات، تتناثر في التحقيقات استنتاجات، جامعة مانعة، هي خلاصات الوقائع السابقة، أو مقدّمات تأتي الوقائع اللاحقة لتثبت صحّتها. ومن قبيل ذلك قولهما:
- «وعلى العموم، فـ «عاصمة الشمال» مدينة لا تعمل ولا تلهو. إنها تصلّي وتقاتل» (ص29).
- «والنبطية، تقليديًّا، كمثل الحاضرات المدينية، لا تُؤتمن على ولاء مضمون لعقيدة أو حزب» (ص38).
- «ليس الزغرتاويون أهل أحزاب وعقائد إلاّ عرضيًّا» (ص62).
- «بشرّي ذات طاقة جبّارة على تديين الزمني، فإذا بقي زمنيًّا ونسبيًّا لفظته وجافته» (ص88).
- «الوجدان الجمعي الدرزي عالق هناك في زمن الجماعة المتصل» (ص116).
- «جزين مصغّر لبنان في الهشاشة حيال خارج مضطرب» (ص121).
- «زحلة مصغّر لبنان، المكان الذي سريعًا ما تغدو مشاكله الداخلية عابرة للحدود» (ص133). إن مثل هذه الخلاصات المكثّفة تنطوي على معرفة عميقة بموضوعها.
تختلف التحوّلات التي يرصدها الكاتبان صاغية والشيخ باختلاف المدينة أو المنطقة. وهي تتراوح بين السلبي والإيجابي وما بينهما. وإذا كانت الخلاصات أعلاه نزرًا يسيرًا من الكثير الذي توصّلا إليه، وتتعلّق بكل مدينة على حدة، فإن القارىء، يستطيع الوصول إلى خلاصات مشترَكة، تعبّر عنها فصول الكتاب، مباشرة أو مداورة؛ ومنها، على سبيل المثال لا الحصر:
- ارتباط التحوّلات السلبية في المدن بصعود المدّ الديني في بعديه السلفي (طرابلس) أو الجهادي (بعلبك والنبطية)، وارتباطها بالموقع الجيوسياسي والتنازع بين موقع إداري تنتمي المدينة إليه وآخر «حضاري» / اجتماعي تتطلّع إليه (زحلة وجزين).
- ارتباط التحوّلات الإيجابية بالانتقال من الفرز السكاني العائلي، حيث لكلّ عائلـــة حيُّها وكنيستها وجيشها وزعيمها، إلى الاختلاط العائلي والإقبال علـــى الدراسة والتحرّر من قبضة الزعيم وانتهاء عادة الأخذ بالثأر (زغرتا). وارتباطها بالانتقال من حــالة الاستئثار العائلي بالتمثيل البـــرلماني، والنزاعات بين العائلات، والمشـــاحنات داخل العائلة الواحدة، إلى الحزب العابر للعائلات الذي يُنهي الصراعات العائلية الداخلية، ويُقيم هدنة مع الجوار (بشرّي).
- عزوف أبناء المدن عن الانخراط في العمل الحزبي فيب شكلٍ عام. وهنا، ثمّة إشكالية تطرح نفسها، فعلى رغم أن الأحزاب، في المبدأ، أطر متقدّمة للانتماء، يُلاحظ عزوف أبناء المدن، المتقدّمين «حضاريًّا» على أبناء الريف، عنها، وإقبال الأخيرين عليها (طرابلس، النبطية، جزين، زحلة، بعلبك).
- التأثير السلبي للنزوح الريفي إلى المدن بما يؤدّي إلى ترييف المدينة وإدخال عادات وافدة على الفضاء المديني وغريبة عن أهله (النبطية، بعلبك، طرابلس، صيدا).
- تراجُع الهامش الثقافي بفعل احتكار الثقافة وتديينها وتحزيبها (النبطية، بعلبك)، أو حصرها في لجان وأطر معينة (بشري، الشوف).
وبعد، على أهمّية المادّة المعرفية التي يقدّمها الكتاب وتنوّعها وغناها، والتي هي ضرورية لكلّ مهتم بالتعرّف إلى الواقع اللبناني، ولكلّ متعاطٍ بالشأن العام، فإنه يبقى ناقصًا ما لم يشمل مناطق أخرى كعكار ووادي التيم والمتن وبيروت، وهو نقص يعترف به الكاتبان نفساهما. ثم إن الغرق في الهواجس المناطقية، التاريخية والسياسية، يتمخّض عن تغييب الهواجس الوطنية الجامعة، على ما بين المناطقي والوطني من تداخل، ويؤدّي إلى الوقوف عند تخوم الماضي والحاضر دون التطلّع نحو المستقبل. يُضاف إلى ذلك أن الجمع بين جبران وجعجع باعتبارهما ابني بشرّي «وقدّيسيها اللذين تقدّمهما المنحوتات الحرفية والكيتشية في الأرز مثلما يُقدّم مار شربل أو العذراء» (ص88) يبدو في غير مكانه لاختلاف مجالي اهتمام كلٍّ من الشخصيّتين.
في ظلّ تهـــالك «الأفكار الكبرى»، على حد تعـــبير الكاتبين، يأتي العمل الميداني/ النظري «شعوب الشعب اللبناني» ليقدّم مادة معــــرفية، متنوّعة، غنية، بالواقع اللبناني المتحرّك، لعلّها تكون مقدّمة للنهوض به، فأوّل شروط النهوض بالواقع معرفته، وليــــعيد الاعتبار إلى العمل الميداني كمصدر للمعـــــرفة وأداة، في زمن تعاني فيه النظريات من الانفصام، وتصطدم الأفكار بالواقع.
سلمان زين الدين