سنختتم عامنا، 2014، من دون أن نُقدم لأنفسنا تفسيراً لذلك الطوفان الذي سميناه رغماً عنه «داعش»، والذي أطلق هو على نفسه اسم «دولة الخلافة».
نعم كان 2014 عام الطوفان الذي أطاح السدود والحدود الرخوة بين الدول والكيانات. عام اهتزاز سايكس بيكو، تلك المعاهدة التي لطالما لاحت لنا بصفتها ذروة المؤامرة على عروبتنا وعلى إسلامنا، لكن أحداً منا لم يجرؤ على المس بها، فجاء «داعش» وأطاحها، لنعود ونكتشف أن ذلك الوعي الشقي بحاضرنا إنما يمكن أن ينبعث ويتحول وحشاً يأكلنا، وأن يكشف لنا أن غير الداعشيين منا هم فقط أولئك الذين قبلوا بسايكس بيكو.
صحيح أن «داعش» ليس ابننا وحدنا، لكن، والحق يُقال، أن لنا فيه أكثر مما لغيرنا، فمثلما لا يُمكن لعروبي أن يتنصل من إغراء إلغاء حدود الكيانات المصطنعة، وهي مصطنعة فعلاً، لا يمكن لإسلامي أن يواجه «الخلافة»، أي خلافة كانت. فـ«داعش» في النهاية يُمسك بالمانيفستو نفسه، ذاك الذي أفضى بالإخوان المسلمين إلى التوجه إلى باكستان لتحرير فلسطين، وقبلهم دفع عبد الناصر لإرسال جيشه إلى اليمن، وبعدهم حزب الله الذي توجه إلى سورية مُلغياً الحدود اللبنانية السورية. وكم يبدو غير مذهل أن يُراكم خطاب «رفض الكيانات المصطنعة» الذي اشتغل لعقود وعقود نتيجة تشبه «داعش»، ففي داخل كل واحد منا ميل لاحتقار «وطنه» الجديد، ورغبة في تجاوزه، وهو شرط نفسي تلبيه دولة الخلافة على نحو لم يلبه أحد.
لقد أذهلنا تدفق «داعش» على المدن العراقية والسورية، وهو ذهول منافق، ذاك أن «داعش» كان يقيم في هذه المدن منذ سنوات، ويُشارك في إدارتها، وكل ما فعله في 2014 هو أنه أعلن نفسه سيداً عليها. العالم كله منافق، والعالم كله كان شاهداً على تلك الولادة. وكل ما فعله أيضاً أنه واجه العالم بحقيقته، فقال للأميركيين: هذا ما تُخبئه دولتكم وحكومتكم عنكم، وقال للعرب والمسلمين: ها أنذا أشبهكم على نحو ما تُشبهون أنفسكم، وقال للأوروبيين إن من بينكم من أغريه أكثر مما تُغرونه. أنا ابن العالم وابن مآلاته الكثيرة، وابن حداثته وتقدمه.
نعم «داعش» وُلد عـــراقياً، لكنه الآن مخلــوق عالمي. وُلد في سجــن بوقـــا العـــراقي الذي كان يُديره الأميركيون. هناك تحول أبو بكـــر البغـــدادي مـــن مُجوّد عـــادي إلى قائد للتنــظيم. ومـــن هناك انتقل الرجل بصحبة ضباط البعث المفرج عنهـم إلى صحراء الأنبار حيث أقام في ضيافة العشائر التي اضطهدها نوري المالكي وانتقل منها إلى الموصل وديالى.
لكن «داعش» اليوم لم يعد عراقياً. هو كل شيء. هو تونسي مثلما هو بريطاني وشيشاني، وهذه الهويات غير المُطلقة تُشبه، وان على نحو سلبي ومأسوي، الهوية المتقلبة للمواطن العالمي. فذباح «داعش» اللبناني خالد شروف قدم إلى العراق من استراليا، ونجم التنظيم البريطاني جون كان مغني راب، ومثل هؤلاء آلاف هم نواة التنظيم ونجومه، فيما فيالقه العشائرية تبقى ضعيفة الالتحام ببنيته وقابلة للانفصال عنه ما إن تحين ساعتـــه. أما الضباط البعثيون، فلهم حساباتهم المختلفة وضغائنهم الناجمة عن مسارات أخرى.
قد يبــــدو مستحيلاً تفسير ما جـــرى. هو مستحيل على قدر ما هو بديهي. فيقول الطبيب النفسي عن ذلك البريطاني «جهادي جون» الذي أقـــدم على ذبح الرهينة الأميـــركي جيمس فولي، إنه لا يشك بأن جون يعاني من مرض معروف من أعراضه الانفصال عن آلام الآخرين، وانعـــــدام القدرة على معرفة أن للآخرين مشــاعـر، وأنهم يتألمون مثلما هو يتألــم. لكن المريض الإنكليزي «جهادي جون» هز العالم بفعلته، وهو نفسه من أقــدم علـــى ذبح 22 ضابطاً سورياً أسرهم «داعش» في الرقة. فهل يصــــح أن نقول إن العـــالم كــله ترنح تحت تأثير أعراض مرض رجــــل واحد؟ هنا تكمن قوة «داعش»، أي في قدرتها علــــى توظيف مرض، قد يكون تافهاً، في صورة يمكن لها أن تهـــز العالم. وقد تبدو مقاومة «داعش» في أن يتصدى العالم لهـــذا المرض، وهذا أمر مستحيل. وبهذا المعنى يمكن أن تشغــل «داعش» العالم بما لا وقت لديه له، وأن تدفعه إلى مــراجعـــة بديهيات كان تجاوزها في سياق تقدمه. فها هي دول أوروبية عدة تعيد مراجعة قوانينها بما يضمن لها التحصن من «داعش». مئتا هولندي عادوا من القتال مع «داعش» لا يطاولهم القانون الهولندي الراهن، فيما تدرس بريطانيا قانوناً لسحب الجنسية من مواطنين التحقوا بالتنظيم، وهذا مخالف جوهرياً لمعنى المواطنة وتراجع عن قيم التقدم.
«داعش» بهذا المعنى أشعر العالم أنه بالغ في الانقياد وراء التقدم، وأن التنظيم سبقه للاستثمار الدموي في هذا التقدم. يجب العودة إلى الوراء قليلاً، هذا ما يتهيأ العالم للإتيان به. وربما امتد ذلك ليتجاوز القوانين الحديثة، فإجادة التنظيم الاستثمار في وسائل التقدم التكنولوجي مستفيداً من «ديموقراطية» تدفق المعلومات ربما دفع العالم لإعادة النظر بسهولة إتاحتها.
لكن الغريب فعلاً أن العالم لا يبدو أنه بصدد إلحاق هزيمة بالتنظيم المتوحش. لا بل ثمة مؤشرات للقبول بشيء ما حدده «داعش». ويبدو أن الأخير هو من يقاوم رغبة العالم بقبوله، إذ أن التنظيم شعر أن هناك مساحة حقيقية لهذا الجنون ولهذا الموت، وهو لم يتمدد بعد عليها كلها. ويشعر أيضاً أن وراء القصور في الحرب عليه عجزاً حقيقياً يجب أن يستثمره. الصعوبات الهائلة التي تواجه العملية السياسية في العراق وراءها قبول باحتمال أن يكون «داعش» بديلاً حقيقياً، والتحالف الدولي الباهت والركيك أيضاً، وقبول العالم ببشار الأسد وبنظامه ضرب من القبول بـ«داعش».
لكـــن يبقــــى أن همّ العالم منصب اليوم على مرضاه الأفراد، أولئك الذيــــن يكشفون عن أن «داعش» حكــــايات كثيرة وليس حكاية واحدة. وبما أننا لا نملك ناصـــــية هذه الحكايات الكثيرة فسنبقى غير قادرين على تفسير هذا الخلل غير المنطقي الذي أصاب العالم.
٢٠١٤ عام «داعش» و… الخلل الذي أصاب العالم
٢٠١٤ عام «داعش» و… الخلل الذي أصاب...حازم الامين
NewLebanon
مصدر:
جريدة الحياة
|
عدد القراء:
551
عناوين أخرى للكاتب
مقالات ذات صلة
ديوان المحاسبة بين الإسم والفعل ( ٨ ) سفارة لبنان في...
الشاعر محمد علي شمس الدين يترجل عن صهوة الحياة الى دار...
ديوان المحاسبة بين الإسم والفعل (7) سفارة لبنان في...
ديوان المحاسبة بين الإسم والفعل (6) سفارة لبنان في المانيا...
65% من المعلومات المضللة عن لقاحات كوفيد-19 نشرها 12...
لبنان: المزيد من حالات وارتفاع نسبة...
ارسل تعليقك على هذا المقال
إن المقال يعبر عن رأي كاتبه وليس بـالضرورة سياسة الموقع
© 2018 All Rights Reserved |
Powered & Designed By Asmar Pro