ليس الحدث الانتخابي الأخير في تونس حدثاً عادياً. فانتخابٌ رئاسي يتلوه تداول سلمي للسلطة، ونجاح يتيم يحصده «الربيع العربي»، أمور تحض، مرة أخرى، على الانتباه إلى الاستثناء التونسي الرافد للتطورات المذكورة. وهو استثناء ثقافي واقتصادي واجتماعي معاً، تتضافر فيه العوامل التي كثر الحديث عنها: العلاقة بالغرب، البورقيبية، الطبقة الوسطى، أحوال المرأة، التعليم، معرفة اللغات الأجنبية، معطوفةً على انسجام النسيج التونسي دينياً ومذهبياً... وهذا في مجموعه ما جعل الإسلام السياسي التونسي، أي «حركة النهضة»، متقدماً على كل إسلام سياسي آخر في المنطقة.
مع ذلك فاختيار الباجي قايد السبسي رئيساً جديداً للجمهورية يبقى لافتاً ومثيراً للتأمل. صحيح أن لصق الرجل بنظام بن علي غير منصف، لا سيما لصقه بدائرة الفساد في العهد القديم. لكن السبسي «البورقيبي» ليس، في المقابل، مَن تعد بمثله الثورات، وبالطبع فهو، بسنواته الـ 88، ليس ذاك الشاب الذي تتمخض عنه ثورة شبابية.
والأمر يستوقف. فأن يكون السبسي الرمز الأبرز لتحول ثوري كبير، فهذا ما يقول شيئاً عنه وشيئاً آخر عن «الشباب» في تونس وفي بلدان أخرى حكمها الاستبداد.
أما في ما يخصه هو، فلا مفر من الإقرار بأن من يسمون أنفسهم ليبراليين ويساريين في تلك البلدان لم يعودوا شباناً. هكذا نرى تونس تستنجد ببعض ما أمكن الحفاظ عليه من تقليد سياسي موروث عن الزمن البورقيبي. صحيح أن الأخير لم يكن ديموقراطياً لكنه، مع هذا، لم يسد منافذ الحياة السياسية بالمعنى الذي شهدناه لاحقاً مع خليفته بن علي. كذلك كان الأثر الثقافي، وجزئياً السياسي، الذي تركه الفرنسيون لا يزال أقوى مما غدا عليه في العقود الفائتة الثلاثة بشعبويتها وعاميتها المتورمتين.
وأما في ما يخص الشباب، فواضحٌ أن القمع عطل الحراك الجيلي وأنشأ نوعاً من توحيد للزمن لا انحناءات فيه ولا تضاعيف أو زوايا. وهذا إنما أنجر عن الاستبداد الذي صادر التغيير كما صادر تالياً ذاك التمايز الذي تفترضه النظرة التفاؤلية البسيطة لتحولات الأزمنة والأعمار. وأغلب الظن أن التحجر هذا عند زمن واحد وثابت هو مما استدرج شبان البيئات الأفقر إلى حركات إسلامية راديكالية تنزح بهم عن السياسة. أما على هامش هؤلاء فأقام بعض من أبناء الطبقات المدينية الوسطى الذين استهوتهم المنظمات غير الحكومية ببراءتها وقلة إمساكها بالمتن الاجتماعي وبأسئلته السياسية الصعبة.
فحيث لم تتراكم خبرات يوصلها جيل إلى جيل، تمكن شبان البوعزيزي أن يطيحوا نظاماً، إلا أنهم لم يمتلكوا الشروط التي تتيح لهم أن يقيموا نظاماً بديلاً. فانتقالهم، من ثم، من طلب الحرية، كمفهوم طبيعي يتوحد الجميع أمامه ويعبرون عنه بعفوية، إلى طلب الديموقراطية، كمفهوم مؤسسي وسياسي يستحضر الانشقاق، أعاقه الافتقار إلى التجارب التي حُرِمتْها الأجيال الشابة المَقصية عن السياسة في صورة أو أخرى.
وقد فات الصحافيين والكتاب العرب الذين بالغوا في التوقف عند عمر السبسي، ساخرين أو ساخطين، تلك التعقيدات التي شابت خريطة الأجيال وحِراكها المُصادَر. فهم استسهلوا المطابقة، وهي شكلية بحتة، بين الرئيس التونسي والرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة لأن الاثنين «مُسنان»، وهذا علماً بأن الأول المنتخب ديموقراطياً اضطرارٌ أملاه الحِراك الممنوع، فيما الثاني، غير المنتخب ديموقراطياً، من مسببات ذاك المنع ومن حراسه ومؤبديه. واستطراداً، فإن الأول مرشحٌ، إذا مضت الأمور على ما يرام، أن يكون آخر الأجداد الحكام، والجَد الذي يفتح الباب لأحفاد آتين، قياساً بالثاني الذي أعدم أحفاده لأنه هو وحده الأول وهو وحده الأخير.