لبنان بلا رئيس للجمهورية لليوم الثالث عشر بعد المئتين على التوالي.
لا الحوار الذي سيستضيفه الرئيس نبيه بري بين "حزب الله" و "تيار المستقبل" في عين التينة، عند السادسة من مساء اليوم، قادر على إنتاج رئيس، ولا الظروف والمعطيات الإقليمية والدولية تشي بملء الفراغ الرئاسي في المدى المنظور.
لا يقود هذا الاستنتاج إلى الحكم بفشل الحوار العتيد مسبقا، ذلك أن المشاركين أعفوا أنفسهم مسبقا من هكذا ادعاء، لا بل من مهمة إذا أخذوها على عاتقهم، فإنهم يعرفون أنهم لن يصلوا فيها إلى النتيجة المرجوة.
فالحوار وظيفته المركزية واضحة ولا تقبل أي التباس: تنفيس الاحتقان السني ـ الشيعي، والمعابر إلى هذه المهمة متعددة، تبدأ بالصورة نفسها وانعكاسها الإيجابي المنشود على "الجمهورَين" وعلى المناخ العام في البلاد، وتمر بمحاولة إيجاد تفاهمات موضعية حول قضايا لا تندرج في خانة القضايا الخلافية الإستراتيجية من نوع السلاح ومشاركة "حزب الله" في سوريا، وصولا إلى تثبيت تفاهمات مستحيلة سياسيا حول قضايا من نوع قانون الانتخاب وتفعيل عمل المؤسسات الدستورية!
ولكن يبقى السؤال ما هي مصلحة الطرفَين في الحوار وماذا يستفيد "الراعي"، وأين وليد جنبلاط والمسيحيون بمقلبيهما.. والأهم من ذلك، في أي سياق يندرج هذا الحوار إقليميا ودوليا؟
لم يكن بإمكان "المستقبل" أن يأتي إلى الحوار من دون موافقة السعوديين. وهنا تبدو المفارقة لافتة للانتباه: من جهة، تدعم الرياض بقوة تجديد التواصل السياسي للمرة الأولى منذ أربع سنوات بين سعد الحريري و "حزب الله"، ومن جهة ثانية، لا جديد فعليا على خط التواصل السياسي بين طهران والرياض.
هنا، ينبغي التوقف عند ملف العلاقات السعودية ـ الإيرانية. فقد أحالت الرياض كل التراكمات إلى مرحلة محمود أحمدي نجاد، لكن 18 شهرا من عمر تولي الشيخ حسن روحاني الرئاسة الإيرانية، لم تكن كافية لبدء مرحلة جديدة، بل يمكن القول إن الاشتباك يتوسع بينهما، برغم التفاهم الموضعي جدا في العراق حول إزاحة نوري المالكي.
وليس خافيا على أحد أن الإيرانيين يعفون أنفسهم من المسؤولية، بقولهم إنهم قاموا بكل ما بوسعهم، ووجهوا رسائل إيجابية كثيرة للسعوديين منذ وصول روحاني، حتى أن وزير خارجيتهم محمد جواد ظريف، وفي أول جولة له في المنطقة، طلب زيارة الســعودية، وكان جواب الديوان الملكي أن لا إمكانية لاستقباله من الملك عبدالله بن عبد العزيز.
كرر الإيرانيون المحاولة أكثر من مرة واجتمع ظريف بنظيره السعودي سعود الفيصل في نيويورك، وقبل ذلك، زار الديبلوماسي الإيراني المخضرم حسين أمير عبد اللهيان السعودية، وتم التوافق على مقاربة مختلفة لملف العلاقات الثنائية، غير أن الوقائع جاءت معاكسة، وخصوصا هجوم السعودية العلني أكثر من مرة لتخريب وعرقلة التفاهم النووي الإيراني مع الغرب، فضلا عن خوض حرب خفض سعر برميل النفط بوجه الإيرانيين والروس معا في الآونة الأخيرة.
مخاوف السعودية وحدود قدرتها
كان لسان حال الإيرانيين أنه لا بد من تفهم دوافع السعودية؛ المملكة خائفة وقادرة فقط على الاعتراض ولا تملك مشروعا في المنطقة، ولا هي بِوارد امتلاك هكذا مشروع. واللافت للانتباه أنه في خضم الاشتباك، بادر وزير خارجية السعودية في النصف الأول من تشرين الأول الماضي إلى توجيه دعوة رسمية جديدة لنظيره الإيراني لزيارة الرياض، وقبل أن يرد الإيرانيون على الدعوة، صدرت تصريحات للفيصل تضمنت انتقادات حادة للإيرانيين، وبعدها بأيام قليلة، صدر الحكم السعودي بإعدام الشيخ المعارض نمر النمر، وتوج هذا المسار بقرار اقتحام بلدة العوامية في القطيف بشرق السعودية، ما أدى إلى سقوط قتلى وجرحى.
يأتي ذلك كله في ظل اشتباك مفتوح بين الرياض وطهران في كل من البحرين واليمن والعراق وسوريا ولبنان والسودان، فضلا عن وجود تنافس في ساحات إقليمية مشتركة. وبدا واضحا أن السعوديين يريدون من الأميركيين، قبل إبرامهم أي تفاهم نووي، ضمانات محددة حول دور إيران الإقليمي ومستقبل سوريا وأفق الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي، وكلها عناصر مرتبطة إلى حد كبير بقدرة الإيرانيين، وليس بعجز السعوديين عن الفعل.
تكرس الانطباع الإيراني بأن السعودية غير جادة في سعيها إلى تطبيع العلاقات، وهي تحاول فقط أن ترمي الكرة في ملعب الإيرانيين من خلال توجيه الدعوة أكثر من مرة إلى ظريف، بينما ينحو سلوكها منحى صداميا لا بل "عدائيا".
وللسعودية أن تتباهى بقدرتها على الحسم داخل حدودها، كما في بعض الجوار الذي تعتبره جزءا لا يتجزأ من أمنها الإقليمي، وبإمكانها أن تصرخ في الليل والنهار مطالبة إيران بعدم التدخل في الشؤون العربية. لكن أبعد من ذلك، لا تملك هذه الدولة الخليجية الكبرى سوى القدرة على التعطيل، وإذا جرّب الخبراء رسم سياق واحد لما يسمى "الدور السعودي" إقليميا، فإنهم لن يجدوا ضالتهم، بل مجرد سياقات لا تتسم بالثبات والتراكم ولا الرؤية الإستراتيجية، وهنا المعضلة الكبرى، ما دامت المملكة منكفئة وتتحول تدريجيا إلى "مملكة الخوف".
كيف يمكن للحوار أن ينجح؟
ولأن لبنان بمكوناته الطائفية والمذهبية، وتحديدا السنيّة والشيعية، محكوم بالفالق الزلزالي السني ـ الشيعي المتأجج منذ سنوات في المنطقة، وتحديدا منذ الاحتلال الأميركي للعراق في العام 2003، فإن السؤال البديهي هو: هل يمكن لحوار موضعي بين "حزب الله" و "المستقبل" في لبنان أن ينفصل عن ذلك الاحتدام الإقليمي؟
إن تلبية الدعوة للحوار هي أفضل جواب ولو أن حسابات المبادرين والمتجاوبين مختلفة.
هنا، يُسَجَّل للنائب وليد جنبلاط أنه كان سباقا في إطلاق مبادرة الحوار وتشجيع قطبَيها، برغم عدم جلوسه ماديا إلى الطاولة الثلاثية، ولو كان قد بادر هو لاستضافة المتحاورين، لكان أحرجهم ومعهم راعي الحوار الحالي، غير أن الرئيس نبيه بري، تمكن بحنكته ودهائه، من تحقيق إنجاز كبير، لشخصه، كما لموقع رئاسة المجلس النيابي، إذ تحول من "طرف" بعيون "المستقبل" و "14 آذار" إلى راعٍ مستديم، متمايز، يملك هامشا من الاستقلالية ولا يتلقى تعليماته من "الولي الفقيه"، ويستطيع أن يكون حكما في الاستحقاقات على اختلافها.
وبطبيعة الحال، فإن لتيار "المستقبل" حساباته المفتوحة مع بري، في مجلسَي النواب والوزراء وخارجهما، ولعل أبرزها قطع الحسابات المالية و"السلسلة" الموضوعة على الرف، والمواقع الأمنية الآتي زمن استحقاقاتها قريبا، فضلا عن "التقاطعات الرئاسية"، ولو أنها غير قابلة للصرف حاليا.
وإذا كان نبيه بري لن يقصر اليوم في توجيه التحية لوليد جنبلاط، فإن السؤال التالي، هو أين موقع المسيحيين من الحوار؟
من نافل القول إن اتفاق "الثنائي الشيعي" و "المستقبل" ينقز كل الآخرين بالمعنى الطائفي وحتى المذهبي، غير أن الانطباع السائد عند الموارنة أن أي تفاهم بين القطبَين السني والشيعي يكون على حسابهم مجتمعين، أو على حساب أحدهم كما حصل في محطات كثيرة من العام 2005 حتى الآن، كما أن استمرار التصادم بين هذين المكونَين يهدد بتعطيل البلد، كما حصل مرارا، وكان المسيحي يدفع الثمن في كل الحالات، خصوصا بالمزيد من الهجرة والانكفاء.
ولعل مصيبة المصائب أن المسيحي يقف موقف المتفرج، فلا هو قادر على لعب دور الجسر التاريخي في عز الانقسام السني ـ الشيعي، ولا يريد أن يكون جزءا منه، ولا أن يرى نفسه مستفيدا منه، بل ينتظر من الطرفَين أن يقاربا دوره، كل من منظاره وتبعا لمصلحته!
بهذا المعنى، يسجل للعماد ميشال عون أنه نجح في "حشر" حليفه "حزب الله" ضمن معادلة "المسيحي القوي" رئاسيا، وبالتالي، صارت أية مقاربة للحزب في الحوار مع "المستقبل" محكومة بهذه المعادلة للدور المسيحي، وبالتالي، تصبح النظرة إلى الحوار مرهونة بقدرة حلفاء "الجنرال" على تسويق نظريته.. وإلا يكون بديلها البحث عن طائف جديد يعيد التوازن للدور المسيحي المهمش.
أما سمير جعجع، فقد نجح، ليس في ترميم ود مفقود مع "المستقبل" من زمن تبنيه قانون "اللقاء الأرثوذكسي" الانتخابي، بل في أن يتحول من مجرد "عدة شغل" عند زعيم "التحالف الآذاري" إلى لاعب حقيقي يستطيع أن ينال من السعودية ليس مكافأة وتنويها وحسب على "هضمه" السريع للتمديد النيابي، بل على قدرته على المناورة سياسيا، وبالتالي تشكيله سدا منيعا في وجه محاولات وصول ميشال عون إلى قصر بعبدا، وفي ذلك تناغم واضح مع "الفيتو" السعودي غير القابل للمراجعة.
هل يصبح مفاجئا لأحد أن يتفق الإيرانيون والسعوديون على جملة واحدة فقط: "ليتفق المسيحيون على رئيس الجمهورية ونحن سنتبنى خيارهم بمعزل عن الإسم"!
عبارة أبلغتها كل من الرياض وطهران لكل الموفدين، وخصوصا الموفد الفرنسي جان فرنسوا جيرو الذي ألغى زيارته الإيرانية المقررة هذا الأسبوع "بسبب تضارب المواعيد" كما أبلغت وزارة الخارجية الفرنسية الإيرانيين، بينما كان أصدق تعبير عن حقيقة الأمر ما قاله الرئيس الفرنسي فرنسوا هولاند قبل أيام قليلة لأحد سائليه عن حصيلة الاتصالات بشأن الملف الرئاسي اللبناني: "لقد أقفلت بالكامل"!
^أكد رئيس مجلس الشورى الإيراني علي لاريجاني، خلال زيارته لبنان أمس، دعم بلاده للحوار بين «حزب الله» و«المستقبل». وأعلن أنّه «حصلت مشاورات معنا بشأن الاستحقاق الرئاسي، وإيران تدعم أي حلحلة في هذا الملف»، مشدّداً على أنّ «المسيحيين اللبنانيين هم المعنيون الأساسيون في هذه القضية، ويجب أن يضافروا جهودهم» . وقد التقى لاريجاني الرئيسَين نبيه بري وتمّام سلام، وحاضر في الجامعة اللبنانيّة، كما التقى الفصائل الفلسطينية، ثم عرض في مؤتمر صحافي أبرز ما تناولته لقاءاته.