عاملان سيجعلان واشنطن تدخل مباشرة على خط الاستحقاق الرئاسي، فيما كانت اكتفت لغاية اليوم بالدعوة في كلّ موقف وتصريح إلى انتخاب رئيسٍ جديد، والتحذير من استمرار الشغور الرئاسي.
الحراك الديبلوماسي المكثف باتجاه لبنان يشكل عاملاً إيجابياً حتى لو لم يُثمر رئاسياً، لأنه يعبّر عن اهتمامٍ بهذا البلد الصغير، وحرصٍ على إبعاده من الأزمات الساخنة في المنطقة.ولكنّ مجرد خروج الاستحقاق الرئاسي من الحيّز اللبناني إلى الحيّز الدولي يعني انتقاله إلى مرحلة جديدة، وهذه المرحلة لن تبلغ خواتيمها السعيدة قبل دخول الولايات المتحدة على خط الضغوط السياسية، لأنّ اللاعبين الدَوليين والإقليميين يريدون مقايضة أيّ تنازل أو تساهل، وليسوا بوارد تقديم أوراق مجانية.
ولم تكن واشنطن طوال الفترة السابقة على استعداد للدخول بأيّ مفاوضات حول الملف الرئاسي اللبناني، مكتفية بالضغوط الاقتصادية على طهران لدفعها إلى التسريع بإبرام الاتفاق النووي، مرحِّلةً التفاهمات حول ملفات المنطقة إلى المرحلة التي ستلي التسوية النووية، إلّا أنّ العاملَين اللذين دخلا على خط السياسة الأميركية سيدفعان الإدارة إلى تبديل سياستها من الانكفاء إلى الداخل الأميركي إلى التدخل في ملفات العالم الساخنة.
العامل الأول، حاجة الرئيس الأميركي إلى تحقيق مكاسب سياسية من أجل أن يعوِّض خسارة حزبه في الانتخابات النصفية، كما أن يستلحق الحزب وضعه في الانتخابات الرئاسية المقبلة، وبما أنّ الإنجازات الداخلية متعذّرة، تراجع الرئيس باراك أوباما عن سياسة العزلة التي أتبعها منذ لحظة وصوله والتي حصر فيها اهتمامه بالملف النووي، ولجأ إلى السياسة الخارجية التي كانت أوّل مؤشراتها التحالف الدولي ضدّ «داعش» والتي شكلت إعلاناً عن عودة الولايات المتحدة إلى المسرح الدولي.
فالمكاسب التي يمكن أن يعوّض فيها أوباما الاستياء الأميركي من سياساته هي من طبيعة خارجية. ولذلك يُرجَح أن تسعى الإدارة إلى تحقيق إنجازات خارجية، وقد يكون لبنان أكثر المستفيدين من هذا التحوّل الأميركي لجهة الدخول على خط الانتخابات الرئاسية.
لا شكّ أنّ المسرح الأساس اليوم هو الأزمة السورية بعد الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي، ولكنّ لبنان يُعتبر مؤشراً إلى تبدل في السياسة الخارجية، واستعداداً إلى الانغماس في القضايا الخارجية، وتمهيداً للدخول على الواقع السوري، وذلك في موازاة الملف النووي، وبالتالي تبعاً لهذا المعطى الجديد يمكن القول إنّ التسوية الرئاسية أصبحت على قاب قوسين أو أدنى.
العامل الثاني، المصالحة التاريخية التي حققها البابا فرنسيس بين الولايات المتحدة وكوبا، ولعلّ أهميتها تكمن في بُعدَين:
البُعد الأول، استعادة الفاتيكان دوره بحلّ النزاعات بعد النجاح الكبير الذي حققه البابا يوحنا بولس الثاني في إسقاط الستار الحديدي، الأمر الذي يعني تعزيز الفاتيكان لدوره على المسرح الدولي، وتحديداً في الشرق الأوسط من بوابتَي المسيحيين المشرقيين والقضية الفلسطينية. ولن يألو البابا جهداً من أجل حماية ما تبقى من حضورٍ مسيحي مشرقي تمهيداً لتعزيز هذا الحضور مجدّداً.
ولكنّ الفاتيكان الذي يدرك أنّ الركيزة الأساسية للمسيحية المشرقية تتجسّد في لبنان، سيضع كلّ ثقله في بلاد الأرز تجنباً لإضعاف هذا المرتكز الذي يعطي للمسيحيين المشرقيين الأملَ بغدٍ أفضل، وبالتالي سيبقى الفراغ الرئاسي في لبنان أحد أبرز همومه، ولن يعدم وسيلة قبل انتخاب رئيس جديد.
البُعد الثاني، تسليف الفاتيكان للإدارة الأميركية في ملف المصالحة مع كوبا سيجعل واشنطن أكثر تعاوناً وتجاوباً مع مطالب الفاتيكان في الأماكن حيث إمكانية الخرق متاحة، الأمر الذي ينطبق على الملف الرئاسي في لبنان.
تأسيساً على ما تقدّم، ومع الحاجة الأميركية إلى تحقيق مكاسب خارجية، ومع تعزيز الفاتيكان ثقله ودوره، ستشهد الأسابيع والأشهر القليلة المقبلة كسراً لحلقة الفراغ الرئاسي بانتخاب رئيس توافقي قادر على إعادة الأضواء والحياة إلى قصر بعبدا، كما جمع اللبنانيين لتحصين الاستقرار والنأي بلبنان عن الأزمات الخارجية الساخنة بانتظار أن يحين وقتُ التسويات المنتَظَرة.