العلاقة بين إيران ومصر لمن يحبذ المنحى التاريخي العتيق، تمتد الى بداية عصور التدوين في عصر الممالك القديمة. وقد حافظ الطرفان على قدر من «الرومنسية» في التعاطي المتبادل في النصف الاول من القرن الماضي، من خلال المصاهرة بين العائلات الحاكمة، وكان أبرزها زواج الأميرة فوزية شقيقة الملك المصري فاروق الأول من الأمير محمد إبن الشاه الإيراني رضا بهلوي في العام 1939، الى ان أصبح لإيران امبراطورة مصرية بعد انقلاب الامير محمد على ابيه ونفيه الى افريقيا بمساعدة بريطانيا. لكن مغامرة الاميرة فوزية انتهت بعد طلاقها من الشاه محمد رضا بشكل غريب، وعلى مرحلتين، الأولى في القاهرة العام 1945، والثانية في طهران العام 1948، وكانت سبباً لتأزم العلاقات بين البلدين.
رومنسيات القرن الماضي بنصفه الثاني شهدت تحولات ماثلت التحولات الدولية. التراكم الثقيل بدأ بقبول الرئيس المصري انور السادات القرار الأممي 338 عقب نهاية «حرب أكتوبر» العام 1973، ثم زيارته الكيان الإسرائيلي العام 1977 بكل مفاعيلها المفصلية على الصراع العربي ـ الاسرائيلي، وصولا لتوقيعه «اتفاقية كامب ديفيد» في 17 أيلول 1978. مع إطلالة الثورة الإيرانية العام 1979 واكتساح التيار الإسلامي المناهض للغرب إحدى أكبر المحميات الغربية في آسيا، آثر نظام الإمام الخميني التعاطي مع مصر بالطريقة التي اعتمدتها معظم الدول العربية وقتها. فمصر أنور السادات خرجت عما قيل إنه إجماع في الصراع ضد الصهاينة، وحولت مسار الصراع من عربي اسرائيلي، الى «أحادي اسرائيلي». طهران لم تهضم المغامرة المصرية، وامتعاضها من السادات امتد الى ما بعد اغتياله، وبقيت مرحلة الجمود «الحار» هذه من دون اختراقات اساسية طوال فترة حكم الرئيس المصري المخلوع حسني مبارك.
إيران لم تخرج من عباءة الثورة. لكن نظامها تمرس مع الوقت وتراكم الأزمات، وأيقن أن ادارة العلاقات الدولية ليست عملا ثورياً. فبلدان الجوار لم تتغير، و»كامب ديفيد» لم تحرق، وتركة السادات باتت قسماً غير قابل للانسلاخ عن الأداء السياسي المصري الرسمي، فتناقضات مرحلة حكم الرئيس حسني مبارك، كدعمه الرئيس العراقي صدام حسين في الحرب العراقية ـ الإيرانية، وما تناولته اوساط في القاهرة عن دعم ايراني لجماعات «مسلحة» في مصر في تسعينيات القرن الماضي، وصولا لتغيير بلدية طهران لاسم شارع خالد الاسلامبولي، قاتل السادات العام 2010، كل هذه الامور مع حواشيها تم تخطيها بحزمة تناقضات اخرى. مجيء الرئيس المصري «السابق» (أو «المعزول» أو «المخلوع») محمد مرسي لم يكن حدثاً عابراً في سجل علاقة البلدين.
بعد سقوط حسني مبارك وتولي الإسلامي مرسي سدة الحكم، زار الاخير إيران في نهاية آب 2012 لحضور «قمة عدم الانحياز» في طهران، حيث تم استقباله بحفاوة كبيرة من الرئيس نجاد، وتلك الفرصة لم يهملها مرسي في خطابه الذي حمل تلميحات بخلفية «دينية تاريخية» تحاكي قلوب اتباعه ومحبيه. وفي نيسان 2013، زار الرئيس الإيراني وقتها محمود احمدي نجاد، وهو صاحب خطاب رومنسيات الضفة الأخرى، مصر لحضور القمة الإسلامية في القاهرة، واستقبله الرئيس مرسي بحفاوة، وزار نجاد جامع الأزهر ومقام السيدة زينب وسط إحراجات متكررة وصلت حد الإخفاق في بروتوكولات استقبال الرؤساء. وبمعزل عن خلفيتها، إلا أنها عكست تناقضاً حاداً بين طبيعة النظامين، أفشل التسويق الإيراني لفكرة «الصحوة الإسلامية» في أكبر بلدان المنطقة العربية.
ومع سطوع نجم الرئيس السيسي، استعجل الجنرال عملية رسم نسقه الخاص في ادارة العلاقة مع الجانب الايراني في حوار له مع قناة «سكاي نيوز» بداية الصيف الماضي، عندما قال إن العلاقة مع إيران تمر عبر الخليج العربي، وإن أمن بلاده لا ينفصل عن أمن الخليج. التشبيك المتسرع هذا على الأقل من ناحية التخريجة في التعبير، لم يكن منعزلا عن حسابات يدركها الرجل، فمصر ترزح تحت ضغط اقتصادي هائل وفي ظل مديونية عالية، دأبت دول الخليج النفطية على ترقيعها بمليارات عدة بين فترتي مرسي والسيسي، بشقين تمويليين، الاول قطري والثاني سعودي - كويتي - إماراتي.
وفي ظل المتغيّرات الحالية، تبدو مصر بمثابة المحب المتردد في اتخاذ الخطوة الأولى لإيجاد صيغة جديدة للتعاطي مع طهران، تخرج النسق التقليدي البارد من دفتر العلاقات المشتركة، حتميات مصر السيسي واضحة، العلاقة مع واشنطن، والسلام مع الكيان الاسرائيلي، والود الخليجي صاحب المردود السخي. لكنه، في الوقت ذاته، يدرك حجم عملية إعادة الهيكلية التي تجري على قدم وساق في المنطقة وأطرافها.
لم يعد بإمكان القاهرة تحمل تكلفة تصريحات نارية ذات خلفية لا تمت لحساب البازار السياسي بصلة، كالتي أطلقها الرئيس مرسي في تناوله للشأن السوري ذي الطبيعة الحساسة في العقلية الإيرانية، بل في منظومة الأمن القومي الإيراني. وطهران على الجانب الآخر خرجت للعالم في خطابة جديدة سحرت المخيلات الغربية ودغدغت احلام التسويات الكبرى، في عملية شطبت إرث الرئيس السابق محمود احمدي نجاد. فالتجديد داخل الدائرة المغلقة الواحدة، فن لا ينافس الأميركي فيه إلا الإيراني.
ثلاثة مسارات جديدة فتحتها المتغيرات الإقليمية والدولية امام مصر لابتداع تسوية ما، تفضي الى ربط اكبر سوقين في الشرق الاوسط بعدد من الاتفاقات التجارية، ومنها الى تفاهمات سياسية لا تخرج مصر من مقعد «المراقب» في التحالف الخليجي - الأميركي.
المسار الأول هو التقدم الكبير في المفاوضات النووية بين السداسية الدولية وإيران، واحتمال خروج طهران من كماشة العقوبات وعودتها السريعة الى الاسواق الدولية، وما يستتبع ذلك من إعادة توزيع لأدوار وأثقال عدد من بلدان المنطقة في المحفلين الإقليمي والدولي، وبالتالي لم يعد من المقبول ومن اي حليف او شقيق ان يمون على القاهرة في فرض خصومة بينها وبين مارد اقتصادي وعسكري «بالقياس الإقليمي». فمصر أحق بحصة او اثنتين من الكعكة الإيرانية، التي ستطرحها الجمهورية الإسلامية في الأسواق فور توقيع الاتفاق.
المسار الثاني هو خلافة «داعش» التي تمكنت من جمع متناقضات على طاولة واحدة، أو على الأقل في سماء واحدة، كان لها في الامتداد المصري أثر على نظرة بل وحتى موقف القاهرة من مجمل التحالفات المنخرطة في «حروب الربيع العربي». لا ترى مصر في مشاهد استهداف جيشها في سيناء فوارق عن لقطات لاستهداف جيوش عربية أخرى في سوريا والعراق ولبنان. وبالتالي، لِمَ لا تنزل في ذات الخندق الذي تحارب فيه السعودية وأميركا والأردن وسوريا والعراق وحتى إيران؟ ولمصر الحرية الأكبر في هذا المضمار، فهي لم ترسل مالاً او سلاحاً ولم تصدر مواقف عنترية في تناولها للشأن السوري أو العراقي. وهذا عامل اساسي في مد اليد الى الإيرانيين، او قبول اليد الإيرانية لحظة بسطها.
المسار الثالث هو أن مصر لم تخف على الإطلاق رغبتها في فصل قطاع غزة وثقله في القضية الفلسطينية عن العاملين القطري والتركي، كرد فعل على الدعم الواضح من الدوحة وأنقرة للتيار الإخواني داخل البلاد، فإذا ما تخطت القاهرة بذكاء تركة نظام حسني مبارك، خصوصاً لناحية اتهام أطرافٍ إيرانية أو لبنانية بارتكاب «أعمال إرهابية» في مصر، يمكن للرئيس السيسي ان يسقط تفاحتين في ضربة واحدة، عبر الضغط باتجاه إعادة ما تيسر من وزن إيراني «مقابل» الى قطاع غزة من البوابة المصرية، بالثمن السياسي المقبول وبما أمكن من اعتبارات تحفظ له توازناته.