يرى مراقبون لـ «دولة البغدادي»، بيروقراطيون وأكاديميون، أن تلك الدولة لن تكون أكثر من كائن فاشل على غرار الدول التي ورثتها. ويتوقعون أن يكون الفشل أسرع، مستعينين بحجج كاستحالة قيام دورة مالية واقتصادية طبيعية، وفشل متوقع وسريع على صعيد الإدارة الاجتماعية والتربوية لهذه الدولة.

 

 

لا يبدو هذا الكلام مطمئناً على رغم صحته، ذاك أننا فعلاً ننتظر ولادة دولة فعلية، وحكمنا عليها بـ»الفاشلة» هو الخطوة الثانية التي تلي تحققها. ثم إن فشل الدولة في مجتمعات كمجتمعاتنا لا يعني بالضرورة فناءها، ذاك أن البعث بدولتيه السورية والعراقية كان دولة فاشلة لكنها تمكنت من العيش أربعة عقود على الأقل. والمشكلة الأكبر لا تقتصر على العقود الأربعة في ظل دولة فاشلة ومتسلطة، إنما أيضاً بما تخلفه هذه السنوات وما تزرعه في وعي الناشئة. فالقضاء على نظام البعث في العراق كشف أن الأخير مقيم في وعي خصومه أيضاً، وها هي الفصائل السورية التي تقاتل نظام البعث تكشف أيضاً وجود وعي بعثي لا يقل ضراوة عما يعتمل في وجدان النظام من عنف.

 

 

ينطوي توقع فشل «دولة الخلافة» على اقتناع بأن هذه الدولة قائمة، ويُعزز هذا التوقع الإشارات الأميركية حول احتمال أن تطول الحرب على «داعش» عقوداً، وكذلك البطء والفشل في الحملة العسكرية عليها، وعدم اكتراث مجتمع مكافحة الإرهاب بحقيقة أن «داعش» باشرت انتزاع «شرعية» مواجهة الحلف «الفارسي - الأميركي» المستجد، وتحولت رأس حربة لها. يُعززه أيضاً تقدمها العسكري في سورية، وتعزيزها حضورها في البيئات المحلية السورية والعراقية.

 

 

علينا إذاً أن نتوقع أجيالاً «داعشية» لا يكفي انتفاضها على دولتها الفاشلة للخروج من هذا النفق الجديد. فحركة طالبان استولت على الحكم في أفغانستان في أيلول (سبتمبر) 1996 وأطيحت (كسلطة) في نهاية 2001، أي أنها حكمت لفترة لا تتجاوز الست سنوات. ومن يزور أفغانستان في أعقاب الإطاحة بطالبان لا يمكنه من اليوم الأول لوصوله أن يتفادى ما نجم عن حكم طالبان من أشكال عيش وممارسة، تحولت بهذه الفترة السريعة إلى موديل أفغاني راسخ.

 

 

المشكلة في هذا النوع من الجماعات أنها تنبش في الأجيال ما هو موجود فيها أصلاً، أو ما أضعفته فيها قيم العيش الحديث (نسبياً)، والكلام عن أن ما أدخلته طالبان، وما تُدخله «داعش» اليوم، على أنماط الحياة، غريب عن هذه المجتمعات، ليس دقيقاً. البرقع الأفغاني الأزرق سابق على طالبان وكان شرع بالأفول، وكل ما فعلته الحركة هو أنها أعادت فرضه وتعميمه مجدداً وبصرامة. سنوات لا يتجاوز عددها الست عاد معها البرقع شعيرة لا تقاوم، وها هو مستمر إلى اليوم.

 

 

و«داعش» التي فرضت برقعها الأسود لم تأت به من المريخ. في العراق أضافت إلى عباءة المرأة السوداء قطعة قماش صغيرة تُغطي الوجه، وجعلت تمنع النساء الراغبات في التخفف من اللباس التقليدي مضافاً إليه قطعة القماش تلك من تحقيق رغباتهن. لن يأخذ ذلك وقتاً طويلاً حتى يتحول ممارسة عادية وشائعة وطوعية.

 

 

ثم إن القضاء على سلطة طالبان لم يُحقق مهمة القضاء عليها، وها هي طالبان الجماعة الأكثر تمثيلاً للبشتون اليوم، تقاتل وتفاوض وتختطف وتبادل مختطفيها، وللجماعة اليوم حضور في عواصم كالدوحة وإسلام آباد وربما أنقرة.

 

 

و»داعش» التي تشبه طالبان في تركيبتها الاجتماعية والجيلية والوظيفية وحتى الدينية، مرشحة لدور مثل دورها، وعندما يقول الأميركيون إن الحرب على «داعش» قد تستمر عقوداً فهم يستعينون في اعتقادهم هذا بخبرتهم الأفغانية، فالملا عمر عندما أعلن نفسه «أميراً للمؤمنين» ذُهل مُفتو «السلفية الجهادية» وشيوخ «القاعدة» الذين كانوا يعيشون في أفغانستان، ولم يقاوموا ولايته لكنهم نأوا بأنفسهم عنها. وعندما أقدمت طالبان على تفجير تماثيل باميان اعتبر ذلك في أوساط «السلفية الجهادية» مغالاة ليس هذا وقتها، لكن الملا عُمر كان يستعين بـ»شرعية محلية» لا تتيح مقاومته.

 

 

كم يبدو التشابه الوقائعي مذهلاً بين ما أتت به طالبان وما تأتي به «داعش» اليوم، والتشابه إذا ما انسحب على تركيبتي الجماعتين فسنصبح أمام احتمال مستقبل «طالباني». والمخيف أن التشابه الأخير حاصل، أو هو في طريقه إلى التحقق. فـ»داعش» تحث الخطى لانتزاع تمثيل العشائر في غرب العراق وشماله ووسطه، وهي إذا ما تمكنت من إنجاز خمسين في المئة من هذه المهمة تكون اقتربت من مستوى تمثيل طالبان لعشائر البشتون. ومثلما هي طالبان عابرة للحدود الأفغانية ومتمددة على الجغرافيا البشتونية التي تخترق حدود باكستان بدءاً من وزيرستان وصولاً إلى بيشاور، اخترقت «داعش» الحدود العراقية وتمددت في الجغرافيا العشائرية لبر الشام أيضاً.

 

 

وفي الممارسة يُشبه تفجير طالبان تماثيل باميان تفجير «داعش» المواقع الأثرية في الموصل وغيرها من المدن العراقية والسورية، ويُشبه «أمير» مؤمني بلاد الأفغان خليفتنا باستثناء ساعة الرولكس في يد الأخير ورغبته في التقاط الصور في حين كان الملا عمر وما زال أكثر تقشفاً.

 

 

الأميركيون مقتنعون اليوم، وبعد مضي عقد ونصف العقد على بداية حربهم على طالبان أنه لا يمكن تجاوز الحركة الأفغانية في أية تسوية للحرب هناك. البرقع الذي أعادت الحركة إحياءه تحول إلى حقيقة في الدولة الأفغانية غير الطالبانية. مناهج التعليم الجديدة في المدارس الأفغانية لم تتمكن من مقاومة الكثير مما كانت طالبان فرضته، وعندما تحصل المعجزة وتتم تسوية سياسية مع الحركة ستتمكن الأخيرة من استئناف الكثير مما كانت فرضته في أيام حكمها.

 

 

«داعش» باشرت ترسيخ سلطتها في دولتها الفاشلة. من المرجح أن لا يُكتب عمر مديد لهذه الدولة، لكن السنوات القليلة التي يُبشرنا بها الأميركيون ستكون كفيلة بردنا قروناً إلى الوراء. وهي قرون تقدم بها زمننا على نحو بطيء وصعب ومُكلف. فالانتقال السريع الذي أحدثته «داعش» من العباءة إلى البرقع كان طبيعياً، وبما أن الحداثة مقاومة للطبيعة، فإن العودة عن هذه النقلة ستكون بكلفة مقاومة الطبيعة. حروب ومسارات معقدة وبطء في التقدم. وهي أكلاف سبق أن دفعناها وبددناها كما هي حالنا في كل شيء.