مشكلة الجمهورية اللبنانية ليست في النظام وحده ولا في الدستور فقط ولا في القوانين، إنما المشكلة على حقيقتها كانت ولا تزال في وجود السلاح خارج الدولة بحيث يقيم دولة ضمنها، فما من رئيس للجمهورية، قوياً كان أم ضعيفاً، إلا وعانى من هذه المشكلة. فاذا كان قوياً واصطدم مع من يحملون هذا السلاح عرَّض الأمن الداخلي للخطر والوحدة الوطنية للانهيار والسلم الأهلي للحرب، وهوما حصل للرئيس القوي سليمان فرنجية عندما تصدّى للسلاح الفلسطيني وأمر الطائرات العسكرية بقصف المخيمات فانتهى به الأمر الى انهاء ولايته خارج قصر بعبدا... والرئيس شارل حلو الذي كان يصفه البعض بالرئيس الضعيف حاول تجنب إطالة أمد الحرب اللبنانية – الفلسطينية ثم اللبنانية – اللبنانية بالتوصل الى ما عُرف بـ"اتفاق القاهرة" الذي لم يتقيد الفلسطينيون المسلحون بمعظم بنوده فاستمرت الحرب على رغم هذا الاتفاق.
ولم يتوصل اللبنانيون الى اتفاق على وقف الاقتتال في ما بينهم ليكون أقل كلفة إلا بتدخل خارجي فرض جمع النواب في مدينة الطائف السعودية حيث تم التوصل الى ما عرف بـ"اتفاق الطائف" الذي قلّص صلاحيات رئيس الجمهورية ونقل السلطة الاجرائية الى مجلس الوزراء مجتمعاً. ولم يكن لرئيس الجمهورية الذي كانت تختاره سوريا دور سوى مواكبة تنفيذ هذا الاتفاق ولم تكن له القدرة على جعل تنفيذه كاملاً لأن سوريا لم تكن راغبة في ذلك كي يبقى لاستمرار وصايتها على لبنان مبرر... فلم يقم الجيش الذي يستطيع بقوته الذاتية بسط سلطة الدولة في كل المناطق اللبنانية، ولم يتم حل كل الميليشيات اللبنانية وغير اللبنانية وتسليم سلاحها إلى الدولة، وظل السلاح داخل المخيمات الفلسطينية بدعوى التصدّي لأي اعتداء يقع عليها، ولم يشكّل إخراج المسلحين الفلسطينيين الى تونس حلاً جذرياً لمشكلة السلاح الفلسطيني في لبنان. وهكذا كان رؤساء الجمهورية زمن الوصاية يملكون ولا يحكمون.
وبعدما انتهت الوصاية السورية بخروج القوات السورية من كل لبنان، واجه لبنان مشكلة وجود سلاح "حزب الله"، وكان مبرر التسليم بوجوده هو تحرير الاراضي في الجنوب من الاحتلال الاسرائيلي، لكن هذا السلاح تحوّل مشكلة بين اللبنانيين عندما ارتد نحو الداخل، وكان المشهد الخطير يوم 7 أيار 2008. وبوجود هذا السلاح لم يكن في امكان اي رئيس للجمهورية، قوياً كان أم ضعيفاً، ايجاد حل لمشكلته لأن شرط "حزب الله" لتأييد أي رئيس للجمهورية والتعاون معه ومع الحكومة، هو الحفاظ على هذا السلاح لأنه سلاح مقاومة لا يمس... وحاول الرئيس السابق ميشال سليمان ايجاد حل لمشكلة هذا السلاح من خلال الموافقة على استراتيجية دفاعية تجعل الدولة اللبنانية بقواتها المسلحة تستفيد من وجوده والاستعانة به عند الضرورة وان يكون بإمرة الدولة اللبنانية لتوحيد مرجعية استخدامه. لكن الحزب لم يوافق على مشروع الاستراتيجية الذي اقترحه الرئيس سليمان ولا على اي مشروع آخر يقيد استخدام هذا السلاح.
وعندما تمّ التوصل الى اتفاق على ما عُرف بـ"اعلان بعبدا" بموافقة أقطاب الحوار، اعتبر الرئيس سليمان أن الأخذ به قد يريح لبنان من تداعيات ما يجري حوله ويشكل بداية حل لمشكلة كل سلاح خارج الدولة. لكن "حزب الله" تجاهل موافقته على هذا الاعلان وأرسل مقاتليه الى ســــوريا ليحـاربوا مع جيش النظام.
لذلك فان الكلام على رئيس قوي ورئيس ضعيف وعن مزيد من الصلاحيات في ظلّ سلاح خارج الدولة لا معنى له. فاذا كان في نيّة الرئيس إثبات قوّته بمواجهة حاملي هذا السلاح، فانه يدخل البلاد في حرب كتلك التي دخل فيها عندما تصدّت الدولة للسلاح الفلسطيني. واذا حاول جعل سلاح "حزب الله" يتعايش مع سلاح الدولة حرصاً على الوحدة الداخلية والسلم الأهلي، فان هذا الرئيس يعتبر ضعيفاً لأنه يكون محكوماً هو والحكومة من هذا السلاح، وهو ما تأكد في الماضي وفي الحاضر ولا شيء يتغير في المستقبل إذا لم يتمّ التوصل الى حلّ لمشكلة السلاح خارج الدولة.
الواقع أن لا تغيير اتفاق الطائف أو تعديله بدعوى إقامة جمهورية جديدة قوية، ولا زيادة صلاحيات رئيس الجمهورية، يمكن أن يغير شيئاً من الوضع الشاذ في ظل السلاح خارج الدولة لأنه يفرض نفسه كجزء منها وكشريك مهم في اتخاذ كل قرار، بدليل أن ما من رئيس للجمهورية تمّ انتخابه إلا بموافقة حَمَلة هذا السلاح، وما من حكومة تمّ تشكيلها إلا بموافقتهم أيضاً وإلا كان الفراغ... فقبل المطالبة برئيس قوي فلتكن المطالبة أولاً بدولة قوية ليكون رئيسها قوياً ولا رئيس يبقى قوياً مع دولة ضعيفة.
والدولة القوية تقوم عندما لا تكون دولة سواها ولا قانون غير قانونها ولا سلاح غير سلاحها. فهل للمرشحين للرئاسة، وخصوصاً من يعتبرون أنفسهم أقوياء، رأي في السلاح خارج الدولة وما هو الحلّ له، لأن باستمرار بقائه لن تكون دولة قويّة ولا رئيس قوي بل رئيس يدير التوازنات وإلا واجه الأزمات.