وخط الشيب رأسه.. ومشى وحيداً فوق منبسط من البقيع وصوت من القرآن يرتل بالحزن تلاوة عن آل إبراهيم وآل داود وآل موسى وآل عمران وآل محمد.. خشع قلبه وفاضت عيناه والتفت إلى ظلال البلدة العظيمة..
هنا كل حجر في مدينة جده.. يروي قصة طفولته وحكايات الكلمة الطيبة والشجرة الطيبة.. وهنا كل حبة رمل تسلم عليه بزيارة وارث وتودعه.. إيه يا سبط النبي ويا بقية العترة الطاهرة.. ما أبعد الفرق بين الحياة في يثرب اليوم ويثرب الأمس وأيام الله من بدر إلى خيبر.
لم يقتل الإمام الحسين (ع) بسيف جده كما زعموا.. بل بألف سيف من سيوف الفتنة.. وسيوف النفاق. وسيوف الإرهاب. وسيوف الظلم.. وخيانات السيوف التي انقلبت على آيات التوحيد والوحدة.
وكان ظلام يلف العروبة والعرب.. ولكن الإمام الحسين (ع) استطاع أن يبعث القوة والحياة لثقافة الاعتراض والامتناع بوصفها العنصر الأبرز في نهضته.. وذلك من أجل ألا تستغل السلطة المستترة بعمة الإسلام وعباءته وهن الأمة وضعفها وجهلها فتعطي للواقع الزائف شرعية باسم الدين الذي انتهى أمره في ذلك العصر إلى أحزاب وحركات يمخر بعضها عباب بعض بموروثات التعصب والجاهلية الأولى.. وحسب توصيف الإمام الحسين (ع) لحالة مجتمعه فقد صار الناس عبيد الدنيا والدين مجرد طقوس وشعارات ومصالح.. والدين لعق على ألسنتهم يحوطونه ما درت معايشهم فإذا محصوا بالبلاء قل الديانون.
وكربلاء الأم هي التي انبثقت من قيمها وأخلاقها وآلامها.. كل قضية إنسانية عادلة.. كذلك لا يمكن للتاريخ العربي إلا أن يحتفظ بدور المرأة الكربلائية ودور الأمهات اللواتي ضربن أروع الأمثال الخالدة في حماية القيم الروحية والإنسانية التي كانت من أجلها نهضة الإمام الحسين.. فما تذكر سيدة من عظيمات كربلاء إلا ويقترن باسمها بلاغة الموقف والأدب الذي انتصر باللغة على سيوف الرجال وطاغيات المفاهيم الجاهلية.
وسماح الغفران يضوي بدموع التوبة.. حمل الحر بكلتا يديه وردة الندم وبكى.. لم يسقط.. مضى بنقد ذاته شهيداً وانتصر.. والفاجعة يا صديقة الألم المقدس مختبر الرجال ومخاض الكواكب والمواقف المضيئة.
لكيلا تكون الفاجعة موسماً لاستنزاف قيمها العليا فإن سؤال النهوض بآلامها المقدسة هو: إذا كان مضمون الحدث الكربلائي متعلقاً بمقاومة الفساد.. فإن رمزية الاستجابة الكاملة لمواجهة تحديات الفساد في الوقت الحاضر يجب أن تدرس في نطاق البرامج والمبادرات التي تعي جيداً دروس التاريخ الناتج عن تكرار عوامل الفساد ذاتها وآثارها على العالم كله في حاضر هذا الكوكب المتصحر.. ومستقبله.
هل أصيب المسلمون اليوم بمرض الفصام العقلي.. وهل تنجح مؤتمرات التقريب والحوار في علاج هذا المرض التاريخي من دون أن ينهض المسلمون بجميع مذاهبهم إلى رد الاعتبار لخصائص شخصيتهم الأولى بكامل صفاتها النبوية الرحيمة.. وهل يمكن توفير مقدمات المعالجة من دون تضحيات كبرى بحجم الوحدة الكبرى التي كانت من أجلها نهضة الإمام الحسين بندائه الجريح: إن هذه أمتكم أمة واحدة.
ومن كربلاء الحسين إلى كربلاء القدس أصافح من مر بلمعة عينيك يا قدس.. يا قديسة الليل والنهار.. وأبوح بسري رأيت كلامي يدور بفصح عينيك، وعيناك تقولان نصف ما يدور بعيني وأكثر.. تحجبان عن نافذة القلب لهفة الحزن الخفي.. والمطر على شباك غربتنا ينهل من غربة عينيك.. لا معنى للوقت سيدتي.. وكان صمتك أجمل.. وكان وجه الحسين في وجهك ينادينا.. ألا من مئذنة ترفع قباب المسجد الأقصى.. ألا من رأس يرفع هذا الجسد.