من لا يؤمن بهذه الحقائق الدامغة وتأخذه العزة بالإثم في خضم انحيازه الأعمى لملوكالدولة الأموية لن يكون بحاجة إلى الوقوف على مصداقية هذه المجازر والفواجع الموثقة، التي ارتكبها الأمويون مع سبق الإصرار والترصد، وقتلوا فيها مئات الصحابة من دون ذنب، ثم سفكوا دماء مئات التابعين، حتى قيل أنهم لم يبقوا مرشحا من قريش ينافسهم على الزعامة ويقف في وجههم إلا وكان مصيره الموت بيد عمالهم وولاتهم، وهكذا انفرد الأمويون وحدهم بالحكم من دون منافس قرشي.
يزعم الكاتب (أبو عبد الرحمن بن الشيخ) في أكثر من تصريح منشور: (أن الدولة الأموية دوله أسلاميه كبيره وهي أكبر من كلتافه أو حاقد حاول النيل منها في الماضي أو يريد النيل منها في أيامنا هذه). إلى هنا انتهى كلامه. وكأنه يريد إغلاق أبواب النقاش العلمي الحر عن جرائم الأمويين ومجازرهم المروعة. وفيما يلي استعراض مختصر وموثق بالأدلة التاريخية التي لا تُدحض عن الانتهاكات المتكررة التي استهدفت الإطاحة برموز الإسلام، والتي راح ضحيتها الأنصار والمهاجرين والصحابة والتابعين.
· اغتيال الصحابي الجليل حجر بن عدي الكندي. وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بقتله مظلوماً: ففي تاريخ دمشق:12/226: عن أبي الأسود قال: دخل معاوية على عائشة فقالت: ما حملك على قتل حجر وأصحابه ؟ فقال: يا أم المؤمنين أني رأيت قتلهم صلاحاً للأمة، وأن بقاءهم فساد للأمة، فقالت سمعت الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: سيقتل بعذراء ناس يغضب الله لهم أهل السماء (1).
· اغتيال سبط رسول الله (الحسن بن علي) بالسم الذي دسته له زوجته (جعدة بنت الأشعث) (2).
· مجزرة واقعة الطف التي استشهد فيها سيد الشهداء )الحسين بن علي(وأنصاره من الصحابة والتابعين يوم عاشوراء، في معركة غير متكافئة انتهت بمذبحة عظيمة استشهد فيها سادة قريش، وسُبيت فيها عيال رسول الله وبناته. ثم طافوا برأس الحسين في المدن والأمصار (3). اما الصحابة الذين قتلهم الأمويون في ذلك اليوم، فهم: عقبة بن الصلت الجهني (4)، وعمّار بن أبي سلامة الدالاني (5)، وقُرة بن أبي قرّة الغفاري (6)، وكنانة بن عتيق، ومجمع بن زياد الجهني (7)، ومسلم بن عوسجة الأسدي (8)، ومسلم بن كثير الأزدي، وهاني بن عروة المرادي (9)، ونعيم بن عجلان الأنصاري (10)، ويزيد بن مغفل الجعفي (11).
· مجزرة حصار مكة وتهديم الكعبة: كان عبد الله بن الزبير يظن أن حرمة مكة ستمنع الأمويين من اقتحامها وتخريبها مثلما فعلت بالمدينة المنورة، لكنه كان واهماً فيما ذهب إليه، فقد صوب الأمويون المجانيق نحو الكعبة، وضربوا بيت الله الحرام بعنف، حتى تهدمت واحترقت في الثالث من ربيع الأول عام 64 للهجرة. انتهى القتال بمصرع عبد الله بن الزبير وهو حفيد الخليفة الثاني. من المفيد أن نذكر هنا أن يزيد بن معاوية حكم ثلاثة سنوات فقط، ففي السنة الأُولى قتل الحسين وأصحابه، وفي السنة الثانية هجم على المدينة المنورة وسبى أهلها، وفي السنة الثالثة وجّه جيشاً بقيادة الحصين بن النمير لقتال عبد الله بن الزبير الذي تحصّن في الكعبة المشرّفة، فرماها الأمويون بالنار فاحترقت (12)، وحاصروها عدّة شهور حتّى وصلهم خبر هلاك يزيد. فانفكوا عنها راجعين إلى الشام مغلوبين. وفي عام 73هـ توجّه الحجّاج بن يوسف الثقفي إلى الحجاز في زمن عبد الملك بن مروان، فكرروا ضرب مكّة، ثم علقوا (عبد الله بن الزبير) على أعواد المشانق (13). وهو القائل:
ولسنا على الأعقاب تدمى كلومنا
ولكن على أقدامنا تقطر الدما
· مصرع مصعب بن الزبير وإبراهيم الأشتر على يد الأمويين، فقال شاعرهم متباهياً بمصرعهما:
نحن قتلنا ابن الحواري مصعباً
أخا أسد والمذحجي اليمانـيا
· مجزرة (يوم الحرة): قالالمدائني، عن شيخ من أهل المدينة،قال: سألت الزهري كم قتل الأمويون يوم الحرة. قال: سبعمائة من وجوهالناس من المهاجرين والأنصار، ووجوه الموالي وممن لا أعرف من حر وعبد وغيرهم عشرة آلاف (14).
· اغتيال الصحابي النعمان بن بشير الأنصاري على يد الأمويين في حمص بالشام سنة خمسة وستين للهجرة (15).
· مصرع الشيخ الجليل سعيد بن جبير، الذي جد الأمويون في البحث عنه، حتى وجدوه ساجداً يناجي ربه بأعلى صوته، فاقتادوه مكبلاً إلى واسط. قال لهم الحجاج: اذهبوا به فاقتلوه، فلما خرج من الباب ضحك فأخبروا الحجاج بذلك فأمر برده. فقال: ما أضحكك ؟. قال: عجبت من جرأتك على الله، وحلمه عنك، فأمر بالنطع فبسط، فقال: اقتلوه. فقال: وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض. قال: شدوا به لغير القبلة. قال: فأينما تولوا فثم وجه الله. منها خلقناكم وفيها نعيدكم. قال الحجاج: اذبحوه. قال: إني أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله، خذها مني حتى تلقاني يوم القيامة، ثم دعا الله سعيد، وقال: اللهم لا تسلطه على أحد يقتله بعدي، فذبحوه على النطع سنة أربع وتسعين من الهجرة (16).
· مقتل محمد بن أبي بكر. قتله الأموي معاوية بن حديج.قال له : والله لإقتلنك يا بن أبى بكر وأنت ظمآن، ويسقيك الله من الحميم والغسلين، فقال له محمد: يا بن اليهودية النساجة، ليس ذلك اليوم إليك، إنما ذلكإلى الله يسقى أولياءه ويظمئ أعداءه، وهم أنت وقرناؤك ومن تولاك وتوليته، واللهلو كان سيفي في يدي ما بلغتم منى ما بلغتم. فقال له معاوية بن حديج: أتدرى ماأصنع بك ؟. أدخلك جوف هذا الحمار الميت ثم أحرقه عليك بالنار. قال : إن فعلتم ذاكبي فطالما فعلتم ذاك بأولياء الله، وأيم الله إني لأرجو أن يجعل الله هذه النارالتي تخوفني بها برداً وسلاماً، كما جعلها الله على إبراهيم خليله، وأن يجعلها عليكوعلى أوليائك، كما جعلها على نمرود وأوليائه، وإني لأرجو أن يحرقك الله وهذا، وأشار إلى عمرو بن العاص، بنار تلظى، كلما خبت زادها الله عليكمسعيراً، فغضب معاوية بنحديج ، فقدمه فضرب عنقه، ثم ألقاه في جوف حمار وأحرقه بالنار، فلما بلغ ذلك عائشةجزعت عليه جزعاً شديداً، وقنتت في دبر كل صلاة تدعو على معاوية بن أبى سفيان وعمروبن العاص ومعاوية بن حديج، وقبضت عيال محمد أخيها وولده إليها (17).
· مقتل الصحابي عبد الله بن عفيف الأزدي: وقف عبيد الله بن زياد خطيباً متفاخراً بمقتل سيد الشهداء، فقال :الحمد لله الذي أظهر الحق وأهله، ونصر أمير المؤمنين يزيد وحزبه، وقتل الكذاب بن الكذاب الحسين بن علي وشيعته (18)، فنهض عبد الله بن عفيف من بين الناس وصاح: يا ابن زياد، إن الكذاب ابن الكذاب. أنت وأبوك ومن ولاك وأبوه، يا عدو الله، أتقتلون أبناء النبيين وتتكلمون بهذا الكلام على منابر المؤمنين ؟. فغضب ابن زياد حتى انتفخت أوداجه، وانتفض من كان بالمسجد يقاتلون الشرطة ويمنعون اعتقال عبد الله بن عفيف، لكنهم اعتقلوه وقتلوا ابنته وزوجها، وجيء به إلى أمير الكوفة عبيد الله بن زياد، الذي أمر بقطع رأسه وصلبه(19).
· مجزرة (دير الجماجم): كانت ضاحية (دير الجماجم) قرب الكوفة مسرحاً لمجزرة مرعبة ارتكبتها الجيوش الأموية ضد أنصار التابعي الفقيه عبد الرحمن بن الأشعث بتوجيه مباشر من عبد الملك بن مروان. وكان ابن الأشعث قد خرج ومعه عدد كبير من الفقهاء والتابعين، منهم عامر الشعبي، وأبو البختري الطائي، وعبد الرحمن ابن أبي ليلى، وعبد الله بن رزام الحارثي، وكانوا ناقمين على ولاة الدولة الأموية لظلمهم وتجبرهم (20).
· مجازر الحجاج بسيوف الدولة الأموية: قال هشام بن حسان: أحصوا ما قتل الحجاج صبرا فبلغ مائة وعشرين ألف قتيل (21). قال عمر بن عبد العزيز: لو جاءت كل أمة بخبيثها وجئنا بالحجاجلغلبناهم، وقال عنه الإمام العلم: طاووس بن كيسان:عجبت لمن يسميه مؤمنا (22).وهو أبشع حاكم عرفته العرب في العصر الأموي بارتكابه أبشع الجرائم بحق المعارضين للأمويين. عرفت فترة حكمة بأنها الفترة الإرهابية والدموية الأقسى في تاريخ العراق، وكان هذا المجرم هو من قام بضرب مكة المكرمة وقذفها بالمنجنيق، وقتل داخل الحرم عبد الله ابن الزبير، وصلبة داخل المسجد الحرام منتهكا بذلك حرمة البيت والمكان المقدس الآمن، وقد ختم هذا المجرم سلسلة جرائمه بقتل الولي الصالح والتابعي الجليل سعيد ابن جبير، العابد الزاهد والعالم المتصوف المعروف(23).
· لقد أسرفت الدولة الأموية في القتل منذ ارتكابها فاجعة الطف التي اهتز لها الكون كله، وعاد فيها الأمويون إلى العصور الجاهلية، بقصيدة انقلب فيها (يزيد) على دين الإسلام، بقوله:
ليت أشياخي ببدر شهدوا جزع الخزرج من وقع الأسل
لأهلـوا واستهلوا فرحاً ثم قالوا يا يزيـد لا تشل
قد قتلنا القرم من ساداتهم وعدلنـا ميل بدر فاعتدل (24)
قال ابن أعثم : ثم زاد فيها هذا البيت من نفسه:
لست من عتبة إن لم أنتقم من بني أحمد ما كان فعل
وفي تذكرة خواص الأمة : المشهور عن يزيد في جميع الروايات أنه لما حضر الرأس (رأس الحسين) بين يديه جمع أهل الشام وجعل ينكت عليه بالخيزران ويقول أبيات ابن الزبعري:
ليت أشياخي ببدر شهدوا وقعة الخزرج من وقع الأسل
قد قتلنا القرن من ساداتهم وعـدلنا ميل بدر فاعتدل
وقال : قال الشعبي : وزاد عليها يزيد فقال:
لعبت هاشـم بالملك فلا خبر جاء ولا وحي نزل
لست من خندف إن لم أنتقم من بني أحمد ما كان فعل (25)
قال الطبري: هذا هو المروق من الدين، وقول من لا يرجع إلى الله، ولا إلى دينه، ولا إلى كتابه، ولا إلى رسوله ولا يؤمن بالله، ولا بما جاء من عند الله (26).
للحديث بقية، وفي بطون التاريخ صفحات أموية ملطخة بدماء الأبرياء من الصحابة والتابعين والأنصار والمهاجرين، قُتلوا جميعهم ظلما وعدوانا، بينما يظهر علينا اليوم من يحاول تجميل صورة الدولة الدموية ويقحم نفسه في مغالطات عقيمة تقبح وجه التاريخ، متجاهلاً هذه الأعداد الغفيرة من الصحابة وأبناء الخلفاء ومن المهاجرين والأنصار الذين كان مصيرهم الموت بسيوف الأمويين لأسباب سياسية وقبلية وعدوانية.
(1) فيض القدير:4/166، والغارات:2/812.
(2) ابن كثير: البداية والنهاية (8/38)، وينظر مقاتل الطالبيين ص 50، والمسعودي: مروج الذهب (3/6).
(3) مسند أحمد1 / 242 و282، وفضائل أحمدالحديث 20 و 22 و 26 ، والمعجمللطبرانيح - 56 ، ومستدركالحاكم4 / 398، وقال : صحيح على شرط مسلم وسيرالنبلاء3 / 323، والرياضالنضرة148، ومجمعالزوائد9 / 193 و 194 ، وتذكرةسبط ابن الجوزيص 152 ، وتاريخ ابن الأثير3 / 38، وابن كثير6 / 231 و 8 / 200 ، وقال إسناده قوى ، وتاريخ الخميس2 / 300 ، والإصابة1 / 334، وتاريخ السيوطيص 208 ،وأماليالشجرىص 160.
(4) تنقيح المقال: 2/254.
(5) الإصابة في تمييز الصحابة: 3/111.
(6) راجع الإصابة في تمييز الصحابة: 3/334.
(7) تنقيح المقال: 2/53.
(8) إبصار العين: 170.
(9) الإصابة في تمييز الصحابة: 3/616.
(10) تنقيح المقال : 2/72 .
(11) الإصابة في تمييز الصحابة: 3/677.
(12) سيد أمير علي , مختصر تاريخ العرب , ص 81 .
(13) ابن الأثير , الكامل في التاريخ , المجلد الرابع , ص 309 .
(14) ابن كثير، البداية والنهاية. 11 / 623.
(15) تاريخ الطبري 3/351.
(16) الشعراني في الطبقات الكبرى 1|36.
(17) ابن أبي الحديد – شرح نهج البلاغة – (6/86).
(18) معالي السبطين 2/108.
(19) اللهوف/ابن طاووس / 71 - 73. الإرشاد / للشيخ المفيد/الجزء الثاني/116-117.
(20) انظر الطبري، والكامل، والبداية والنهاية - حوادث سنة (82) للهجرة.
(21) السنن للترمذي 4: 433.
(22) تهذيب التهذيب 1/ 364.
(23) ابن عبد ربه. العقد الفريد.
(24) السيد العسكري ج 2. روى ابن أعثم والخوارزمي وابن كثير وغيرهم.
(25) سيرة ابن هشام : 3/ 97 . وشرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : 2/ 382. اللهوف – 96. مثير الأحزان – 80. وفي تاريخ ابن كثير: 8/ 204
(26) تاريخ الطبري : 8/187 ـ 188 ، مقتل الحسين ( عليه السلام ) ، الخوارزمي : 2/58 ، الفتوح ابن الأعثم : 5/241 ، مقاتل الطالبيين، أبو الفرج الأصفهاني : 120.