في ندائه إلى عون، يقول جعجع: أمامك خياران: إما أن ننزل إلى المجلس فينتخب واحداً منّا، أنا أو أنت، وإما أن نتفق على آخرين، فيَنتخِب أحدهم. ويبدو الخيار الأول مستحيلاً لأن الحلفاء هنا وهناك سيعطلونه. لكن الثاني يصلح منطلقاً لتسوية... إذا صفت النيات!
ينفي جعجع أن تكون رئاسة الجمهورية هدفاً للحوار المذهبي المنتظَر خلال أيام. وهذا النَفي في محلّه، ولكن من زاوية معيّنة. فالسُنّة والشيعة لم يعودوا ينظرون إلى موقع الرئاسة كأولوية تستحقّ التعَب. وهم «دبَّروا أمورَهم» من دونها. إلّا أنّ هؤلاء قد يأخذون الرئاسة في سلّة التفاهمات المحتملة في ما بينهم... إذا تفاهموا، وإلّا فالفراغ لا يُزعج أحداً.لذلك، يبدو الحراك الجاري بين معراب والرابية مثيراً للاهتمام، ويمكن أن يشكّل مدخلاً إلى استعادة المبادرة المسيحية في الملفّ الرئاسي. وإذا اتّفق عون وجعجع على مشروع التسوية، وتشاركَت معهما قوى مسيحية أخرى، فهذه التسوية ستصبح خياراً إلزاميّاً لا يمكن أن يرفضَه لا «شيعة عون» ولا «سُنَّة جعجع».
ولكن هل يبلغ عون وجعجع مرحلة الحوار الحقيقي؟
في البداية، طرَحَ عون سَحْبَ جميع المرشّحين، ليبقى هو وجعجع وحدَهما في الساحة، ولينتخب المجلس مَن يريد. وهذا الطرح قابَلته معراب بالترحاب. ولكنّ السُنّة والشيعة والدروز أطلقوا النارَ عليه وقتَلوه على الأرجح... قبل أن يولَد! فلا أحدَ منهم يريد أن يصلَ إلى بعبدا قطبٌ مسيحيّ في حجم عون أو جعجع، يمكن أن يتسبَّب له بـ«وجع الرأس».
ولذلك، جاء نداء جعجع لعَون، بعد زيارة موفدِه للرابية، مثيراً للاهتمام. فهو من جهة أعادَ «تدوير» الطرح العوني القاضي بمعركة ثنائية تقتصر على الرجلين (ولكن من دون إجبار المرشّحين الآخرين على الانسحاب)، ومن جهة أخرى دعاه إلى التفاهم على مرشّح التوافق العوني - القواتي، بما يكفل أن يكون المسيحيّون هم أصحاب القرار الأوّل في صناعة الرئيس، وليس الحوار السنّي- الشيعي.
والخَيار الثاني يصلح منطلقاً لمخرَج حقيقي. وسيكون حاسماً إذا تبنَّته غالبية القوى المسيحية، من سياسية وروحيّة. والأجدى أن تتبنّاه مرجعية مسيحية جامعة لصناعة القرار، تستوحي «الجبهة اللبنانية» نموذجاً مبدئياً، وتكون ركائزها رئاسة الجمهورية وبكركي وسائر القيادات الروحية والقوى السياسية (في مقدّمها عون وجعجع) والنُخَب الاجتماعية والفكرية.
على الأقلّ، شعرَ زُعماء المسيحيين هذه المرّة بالحاجة إلى تفاهم الحدّ الأدنى على المصلحة المسيحية. وجاء ذلك بتأثير من النداءات التي ظهرَت في أوساط بعض النُخَب. فقد طالبَ كثيرون منهم بوقفِ المهزلة التي يعيشها المسيحيون في لبنان.
وسألَ هؤلاء: هل الخلافات بين زعماء المسيحيين أقوى من تلك القائمة بين السنّة والشيعة؟ وهل الحوار بين عون وجعجع مثلاً أصعب من الحوار بين الرئيس سعد الحريري و»حزب الله»؟ وهل إقامة مرجعية حوارية للسُنّة والشيعة، تدير المرحلة، أسهل من إقامة مرجعية مسيحية للقرار تأخذ على عاتقها وقف الانهيارات المتسارعة؟
حتى اليوم، يتبادل عون وجعجع ما يمكن وصفُه بالرسائل، بالمراسلة أو من خلال المنابر. لكنّ انطلاق الحوار المطلوب بين أبرز قوّتين مسيحيتين لم تظهر مؤشّراته. وتبدو القوى المسيحية الأخرى في وضعيةِ المتفرِّج، إمّا لعجزٍ في الحركة وإمّا أمَلاً في سقوط «الصديقَين اللدودين» تلقائياً.
ولأنّ الخطوات السياسية تبقى مرهونةً بأوقاتها، فالأرجح أنّ عون وجعجع، والمسيحيّين الآخرين، هم في سباق مع الوقت. وعلى الرابية اليوم أن تلتقط الكرة المتزحلِقة إليها من معراب، بالسرعة المناسبة.
فالاستحقاق الرئاسي باتَ نتيجة سباقٍ بين حوارَين: حوارٍ واقعيّ بين السُنّة والشيعة، وحوارٍ افتراضيّ بين المسيحيين. فهل يتّجه القادة المسيحيّون واقعيّاً... قبل أن تجتاحَهم واقعيّةُ الآخرين، وتجعل منهم حالةً افتراضيّة؟