مرتاح سمير جعجع لمسار المعركة الرئاسية، التي قرر خوضها هذه المرة بـ«ترشيحه الحيّ». يحسب خطواته ونقلاته جيداً قبل أن ينفذها على رقعة الشطرنج، فيكسب من الحلفاء ما يريد خطفه، ويزرك الخصوم في الخانة التي يريد. حتى الآن، تمكن الرجل من شطب ترشيح ميشال عون عن القائمة الذهبية، أقله وفق حساباته وحسابات حلفائه، وهو واحد من بنك الأهداف التي رسمها لنفسه منذ أن وقف على المنبر معلناً أمام الجميع دخوله حلبة السباق الرئاسي. صحيح أنّ «جسر العبور» بين الرابية وبيت الوسط، أثار الكثير من المخاوف في ذهنه.
ولكن بمجرد إعلان سعد الحريري، بالصوت والصورة، خروج الجنرال من لائحة «الترشيحات المقبولة»، يكون سمير جعجع قد حقق مبتغاه، وأسقط العصفور ــ الملك برميته.. وحان وقت الحدفة الثانية. اختار رئيس «القوات» هذه المرة النبرة الإيجابية للتوجه إلى خصومه في «التيار الوطني الحر»، وهو يقصد من ذلك التوجه إلى الجمهور المسيحي عامة.
بعد مسار طويل من المناكفات والخصومات الشرسة، ها هو سمير جعجع يدعو الجنرال إلى الجلوس سوياً إلى مائدة واحدة تزيل المطبات والعراقيل وتفتح باباً موصداً من زمن.. علهما يتفقان على ماروني ثالث ينقذ الجمهورية من مستنقع الشغور. هنا، لا تهم كثيراً ردة فعل ميشال عون على هذه المبادرة، مع أنّها تطاله شخصياً ويفترض أن يكون جوابه مؤثراً في مسار الاستحقاق، لا بل مغيّراً له.
ما يهم «القوات» من هذا «النداء المتأخر»، هو إقناع الجمهور المسيحي بأنّ «الحكيم» يتصرف بإيجابية مطلقة في هذه المعركة، حتى تجاه خصمه اللدود، ولا يقود المعركة على طريقة «أنا أو لا أحد»، ولا عبثيا تحول دون وصوله، كما وصول غيره إلى قصر بعبدا. يريد أن يثبت أمام المسيحيين حرصه على مقام الرئاسة وعلى هيبتها ومصيرها، وأنّه لا يلعب دوراً معرقلاً أو معوقاً.. فابحثوا عن أسباب التعطيل في مكان آخر.
طبعاً، نجح جعجع أيضاً في تظهير إخراج لائق لانسحابه الطوعي من السباق، حين أعلن مسبقاً أنّه مستعد للتنحي لمصلحة مرشح توافقي، وهذا ما يسهّل عليه الأمر باستبدال ثوب الملك بثوب صانع الملوك، ممهداً الطريق أمام نزوله عن الحلبة، ليجلس في صفوف الحكّام. وهذا ما يرفضه حتى اللحظة الجنرال. عملياً، لا يمكن فصل الخطوة الانفتاحية التي أعلن عنها «الحكيم» بعد سلسلة رسائل مباشرة وغير مباشرة أودعها بريد الرابية، عن المسار الثنائي المنتظر قيامه بين «حزب الله» و»تيار المستقبل»، والذي يفترض أن يكون طبقه الأساس، انتخابات الرئاسة.
ينفض القواتيون عنهم أي «نقزة» أصابتهم جراء هذا الحوار العابر للاصطفافات الحادة. يقولون بلغة الواثق إنّ حلفاءهم الزرق يضعونهم بكل شاردة وواردة تحصل عبر القنوات الحوارية، وبالتالي لا خوف من أن تجري المياه من تحت أقدامهم، وتحوّلهم في اللحظات الأخيرة إلى زوج مخدوع.
يتفهّمون هذا الخرق الحواري على أنّه صار مطلباً للفريقين بعدما استنفدت الحكومة كل مقوماتها وصارت أشبه بحكومة تصريف أعمال. ولذا لا بدّ من فسحة جديدة خارج أسوار السلطة التنفيذية تجمع الخصمين على طاولة واحدة، لا سيما أنّ الحاجة إلى رئيس للجمهورية باتت ملحة، كما أنّ ثمة ضغطاً دولياً لإنهاء هذا الملف بغية ضبط الإيقاع الأمني خوفاً من تطورات دراماتيكية قد تصيب المنطقة في الأشهر القليلة المقبلة. إلا أنّ هذا لا يمنع الإشارة إلى أنّ «اليد» القواتية الممدودة تجاه الرابية، لا تُفهم إلا على أنّها بمثابة «قوطبة» على الحوار المنتظر بين الضاحية الجنوبية وبيت الوسط، لا بل مسعى لاستباق أي نتيجة جديّة قد يتوصل إليها الفريقان المسلمان، اللذان قد يحرجان حلفاءهما إذا تمكنا من تسجيل تقاطع ما حول اسم توافقي. ولهذا يقول جعجع لخصمه الماروني: لنكن عرّابَي الرئاسة بدل أن نتحوّل إلى ذواقين لها... بالنسبة للقواتيين فإنّ مبادرة جعجع لا تختلف بالمضمون عن مبادرة ميشال عون.
كلاهما يريد «تصفية» الأسماء الضعيفة لحصر المنافسة بين «الأقوياء»، ولكن الأولى تحاول تكريسها بالقانون، فيما الثانية تسعى لفرضها بالسياسة.
ومع ذلك، لا يبدو أنّ الرابية مستعجلة للرد رسميا على النداء القواتي.
أكثر من متحمّس لهذا الخرق، نقل بعض الكلام الطيب من المقرّبين، ولكن أياً منهم لم ينقل موقفاً رسمياً يبلغ موافقة الجنرال أو رفضه للمبادرة.. بانتظار مزيد من التطورات التي قد تفرج عن أحداث جديدة.