لبنان بلا رئيس للجمهورية لليوم السادس والتسعين بعد المئة على التوالي. علي البزال أجمل من أن يصدق أهله ورفاقه وعارفوه أنه صار شهيداً. علي لم ترهبه آلة الخطف والخاطفين. كان قلبه يعتصر ألماً على ابنته المريضة، ابنة الثلاث سنوات التي كان يرعاها منذ أيامها الأولى.
كان مستعداً لفعل أي شيء في سبيل شفائها وسعادتها. كان يخاف عليها أن تخسر كلمة «بابا». كان يريد أن يعيش لكي يقف الى جانبها. كان علي يسأل دوماً عن صحة والدته ووالده وزوجته. كان يفكر بكل العالم إلا بنفسه. عندما تطوع علي البزال في قوى الأمن الداخلي، اطمأن لنيله وظيفة محترمة، في زمن تقل فيه الأشغال وتصعب فيه الأحوال، خصوصا في البقاع المدموغ في حاضره وتاريخه بالحرمان.
كان يريد أن يبقى قريبا من عروسته الصغيرة ومن أهله، فاختار، برغم المخاطر، أن يخدم في فصيلة عرسال، على مقربة من بلدته البزالية وعائلته وعائلة زوجته رنا الفليطي ابنة بلدة عرسال. لم يكن علي البزال يدري أن الإرهاب عندما يمارس سواده، لا يميز بين إنسان وآخر.
صار حامي الناس هو المخطوف وهو الباحث عن حماية سياسية تعيده الى ذويه أو تمنع السكين عن رقبته والرصاص عن رأسه. قال والده رامز بصوت مبحوح: «إذا الدولة خطفت اليوم، ما هي ضمانتنا؟ لمن نلجأ؟ لمن نشكو»؟ أما لسان حال والدته فكان أننا أعطينا أولادنا للدولة لتحمينا وتحمي الوطن، «وإذ بها تتخلى عنا وعن أولادنا». نعم، علي البزال أجمل من أن يصدق كل من يشاهد صورته أنه صار شهيدا على يد خفافيش الظلام.
لم تكد تمضي 24 ساعة على مغادرة الموفد القطري أحمد الخطيب، الأراضي اللبنانية، عائدا الى الدوحة، حتى نفذت «جبهة النصرة» حكمها «المؤجل» بإعدام العسكري علي البزال.
وقال تنظيم «النصرة» في بيان أذاعه عبر «تويتر» (مراسل القلمون) حوالي الحادية عشرة من ليل أمس: «لقد مضى الجيش اللبناني بأعماله القذرة والدنيئة على خطى النصيرية وحزب اللات (حزب الله) باعتقاله النساء والأطفال. ان تنفيذ حكم القتل بحق أحد أسرى الحرب لدينا (علي البزال) هو أقل ما نرد به عليه، وإن لم يتم إطلاق سراح الأخوات اللاتي اعتقلن ظلماً وجوراً فسيتم تنفيذ حكم القتل بحق أسير آخر خلال فترة وجيزة»، من دون أن يذكر اسم ذلك الأسير.
وأرفق التنظيم صورة مع البيان تبين مسلحاً لا يظهر وجهه انما يده اليمنى وهو يطلق عبر رشاش «كلاشنيكوف» الرصاص على رأس البزال. وقال مرجع أمني واسع الاطلاع لـ«السفير» ان الأجهزة تأكدت الى حد كبير من أن البزال «صار في عداد الشهداء»، وأوضح أن خلية الأزمة ستنعقد استثنائيا في الساعات المقبلة، مشيرا الى أن كل الخيارات مطروحة على بساط البحث.
وكشف أحد الوزراء لـ«السفير» أن المدير العام للأمن العام اللواء عباس ابراهيم طرح في اجتماع خلية الأزمة الأخير الرد على أي عمل انتقامي من قبل «النصرة» أو «داعش» بالمبادرة سريعا الى تنفيذ أحكام إعدام صادرة عن القضاء اللبناني بحق إرهابيين.
وقال المصدر الوزاري نفسه إنه برغم فداحة الخسارة، فإن قرار الحكومة حاسم برفض الرضوخ لمنطق الإرهابيين، وأكد أنه «ليس خافيا على أحد أن لا حلول سحرية أو سريعة لملف العسكريين»، آخذاً على القطريين أنهم يتحملون مسؤولية ما حصل بسبب عدم حماستهم لممارسة أي ضغط على الجهات الخاطفة، فالأتراك قرروا «النأي بأنفسهم»، أما القطريون فقد تعهد أميرهم أكثر من مرة لرئيس الحكومة تمام سلام، لكنهم لم يبدلوا حرفا، لا في سلوكهم ولا في الوقائع، وان دلّ ذلك على شيء، فعلى وجود قرار ضمني بعدم وضع الملف على سكة المعالجة الجدية، فضلا عن «انتفاء مصلحتهم في لعب دور كاسحة ألغام في ملف يفترض أن تستثمره حكومة لبنانية ولدت بقرار سعودي» بحسب المصدر الوزاري نفسه. وأوضح المصدر أن زيارة الخطيب لم تحمل جديدا، فقد كان منتظرا منه أن يحمل مطالب واضحة من الخاطفين، ذلك أنهم وعدوا قبل أكثر من أسبوعين بإرسال لوائح بأسماء السجينات اللواتي يطالبون بإطلاق سراحهن من السجون السورية، لكنهم («النصرة») لم يرسلوا سوى 89 اسما (كان يفترض أن يرسلوا 1300)، كما أن «داعش» لم يتراجع عن مطالبته بإطلاق سراح 22 من الموقوفين في السجون اللبنانية وعلى رأسهم أحمد ميقاتي وعماد جمعة ونعيم عباس وجمانة حميد وجمال دفتردار وغيرهم. وأشار المصدر الى أن انتقال الجانب الرسمي اللبناني من موقع الدفاع الى الهجوم في الآونة الأخيرة، أفقد الخاطفين صوابهم، خصوصا أنهم استشعروا وجود «بنك للأهداف» يرصده الجيش في أكثر من منطقة لبنانية، ويمكن في حال استثماره، مضاعفة أوراق القوة بيد المفاوض اللبناني.
يذكر أن خبر إعدام البزال نزل كوقع الصاعقة على أهالي العسكريين المخطوفين في ساعة متأخرة من ليل امس، وقد غادر أهل الشهيد البزال خيم المعتصمين وتوجهوا على الفور الى البزالية، فيما طرح بعض الأهالي تنفيذ اعتصام مفتوح أمام مراكز ومؤسسات قطرية وتركية في بيروت.
ونفذ الجيش اللبناني انتشارا عسكريا واسعا في البقاع، خصوصا في الشرايين التي تربط البقاع الأوسط بالبقاع الشمالي، وسُجل ظهور مسلح في محيط منزل الشهيد البزال في البزالية، بينما قام بعض أهالي بلدته بقطع الطريق بالاطارات بين البزالية واللبوة. وفيما روجت مواقع إخبارية لاشتباكات عنيفة على طول الحدود الشرقية، قال مصدر أمني لـ«السفير» انه سجلت محاولة هجوم من بعض المجموعات الارهابية باتجاه بلدة الطفيل اللبنانية داخل الأراضي السورية، لكن مجموعات «حزب الله» تصدت لها، وعاد الوضع الى طبيعته في ساعة متأخرة من ليل أمس. وكانت قد سجلت بعد ظهر أمس مبادرات هجومية متزامنة من جانب الجيشين اللبناني والسوري براً وجواً، باتجاه مجموعات وقوافل إرهابية كانت تتحرك في جرود عرسال وفليطا والقاع والتلال والوديان المجاورة، وأدت تلك العمليات الى مقتل وجرح عدد كبير من المسلحين.
التحقيق مع الدليمي يتقدم في موازاة ذلك، حصلت «السفير» على معطيات جديدة تتعلق بظروف توقيف العراقية سجى حميد ابراهيم الدليمي والتحقيقات المستمرة معها. فقد تبين أنه بعد أيام قليلة من «غزوة عرسال» (اثر توقيف عماد جمعة) في الثاني من آب الماضي، تلقت طليقة «ابو بكر البغدادي» أمرا بمغادرة مخيم إقامتها في عرسال والانتقال الى «مكان آمن» في الشمال اللبناني.
بعد فترة زمنية، أوقف الجيش اللبناني شخصا بتهمة ارتباطه بمجموعات إرهابية، اعترف أثناء التحقيق معه بوجود امرأة في الشمال (تتنقل بين الضنية ومخيم نهر البارد وطرابلس والبقاع وصيدا ومخيم عين الحلوة) مهمتها تمويل خلايا إرهابية نائمة في أكثر من منطقة لبنانية.
وبعد عملية رصد دقيقة جدا، تمكنت مخابرات الجيش من تحديد موقعها، فوضعت قيد المراقبة على مدى ثلاثة اشهر متواصلة، الى ان اتُّخذ القرار بإلقاء القبض عليها، عبر كمين محكم يوم الاربعاء في 19 تشرين الثاني الماضي عند حاجز المدفون وهي في طريقها من الشمال نحو العاصمة، من دون ان تعرف وجهتها اللاحقة. وتم اقتياد الموقوفة (كانت تحمل هوية سورية مزورة باسم ملك عبدالله) ومعها سائقها الفلسطيني كمال محمد خلف، وطفلتها «هاجر» (يتردد أنها ابنة البغدادي) والطفلان العراقيان عمر فلح إسماعيل الجاسم وأسامة فلح إسماعيل الجاسم.
استند المحققون في تحقيقاتهم الى معطيات استخباراتية والى وقائع صفقة راهبات معلولا، وقد أبلغتهم الدليمي انها كانت متزوجة سابقا من شخص عراقي، وعندما سألها المحققون عن أطفالها، أشارت الى ان «هاجر» هي ابنتها من زوجها العراقي الثاني ويدعى «السامرائي» (البغدادي).
أما الطفلان فهما من زوجها العراقي الثالث فلح الجاسم، ولما سئلت عن السائق الفلسطيني، أجابت في البداية انه شقيقها. وقد سعى المحققون الى إماطة اللثام عن كامل هوية «السامرائي»، خصوصا ان الفرضيات ذهبت فورا في اتجاه أمير «داعش» ابو بكر البغدادي، إلا انها قالت انها لا تعرف البغدادي، وان «السامرائي» هو أستاذ مدرسة من سامراء العراق وقد زوّجه إياها والدها.
سعى المحققون الى معرفة اسم والد جنينها الحالي، بعدما أبلغتهم أنها حامل في الشهور الأولى، وعندما مانعت، تم سؤال أطفالها، فوجدوا صعوبة مع «هاجر» إلا ان أحد الطفلين، وردا على سؤال المحققين له «أين خالك» (شقيق أمك)، أجاب «لقد استشهد».
ثم سئل: «أين استشهد»؟ فقال «كان يجاهد».. وسئل «من قتله»؟ فرد: «الشيعة»، ولماذا قتلوه؟ أجاب: «لأنه مسلم». وبعد إعادة التحقيق أكثر من مرة مع الدليمي، أقرت بأن سائقها ليس شقيقها بل زوجها الثالث وهي حامل منه. يذكر أن أمنيين عراقيين قابلوا سجى الدليمي في سجنها وأكدوا للجانب اللبناني «انها ليست زوجة البغدادي وان للأخير زوجتين لا تزالان معه في العراق». لكن المفاجأة جاءت من الجانب الاميركي الذي اكد للجانب اللبناني ان الدليمي زوجة البغدادي.. وأظهرت فحوص الحمض النووي للطفلة هاجر أنها ابنته.