عند كل محطة أو حدث أو تطور تخرج الهواجس المسيحية إلى العلن، وهذه الهواجس صنفان: صنف فعلي يستند إلى مبررات موضوعية بمعزل عن أحقيّتها، وصنف تخويفي يرمي إلى إبقاء المسيحيين مشدودين إلى خيارات غير دولتية. فهل القلق المسيحي مبرر؟
القلق على المصير والوجود والدور مشروع وضروري منعاً للجمود وفي سبيل التحديث والتطوير، ولكن عندما يتحول هذا القلق إلى هاجس يتحكم بسلوك جماعة معينة تصبح ارتداداته خطيرة عليها، لأنه ينقلها من موقع المبادر إلى رد الفعل، ويجعلها مترددة في خياراتها الكبرى.وفي سياق المبررات الموضوعية يمكن التوقف أمام نموذجين: النموذج الأول من طبيعة سلطوية ويتصل بتغييب المسيحيين عن رئاسة الجمهورية وتهميش حضورهم داخل مؤسسات الدولة من مجلسي النواب والوزراء إلى المواقع الإدارية. والنموذج الثاني من طبيعة سياسية ويتعلق بهامشية دورهم الوطني ربطاً بالتحولات الكبرى المحيطة بهم.
وفي موازاة تلك المبررات يجب التوقف أمام الوقائع-الحقائق الآتية:
أولاً، التهميش الذي لحق بالمسيحيين إبّان الوصاية السورية لم يكن بسبب مسيحيتهم، بل نتيجة موقفهم الوطني المعترض على هذه الوصاية.
ثانياً، التهميش الذي لحق بالمسيحيين بعد العام ٢٠٠٥ لم يكن بسبب مسيحيتهم أيضاً، بل نتيجة غيابهم الطويل عن السلطة، والقوانين الانتخابية التي لم تعكس صحة تمثيلهم الفعلي، والصراع السني-الشيعي.
ثالثاً، المسؤولية في الفراغ الرئاسي هي مسيحية بالدرجة الأولى ويتحمّلها العماد ميشال عون، حيث أنّ الانقسام المسيحي-المسيحي يحول دون وصول رئيس تمثيلي، والتوازن الدقيق الإسلامي-الإسلامي لا يسمح بوصول رئيس حليف لأحد الطرفين يؤدي إلى الإخلال بالتوازن بينهما.
وفي هذا السياق لا بد من الإشارة إلى التموضع الذي قام به النائب وليد جنبلاط الذي أدرك أنّ استمراره حليفاً للسنة سيؤدي إلى تعريضه شخصياً وعلى مستوى الطائفة وإبقاء الصراع مشتعلاً، فقرّر التموضع على مسافة من الطرفين لعدم ترجيح كفة أحدهما على الآخر، وهذا من العوامل التي أدت إلى التبريد السياسي.
رابعاً، طبيعة الصراع في المنطقة بين السعودية وإيران واستطراداً السنة والشيعة فرضت مؤخراً التهدئة السياسية في لبنان أو تحييده بشكل من الأشكال، الأمر الذي يعني استبعاد مسيحيي ٨ و١٤ آذار عن رئاسة الجمهورية والبحث عن رئيس توافقي لإدارة الأزمة والتوازن القائم، وليس كسرهما.
خامساً، الستاتيكو القائم اليوم في لبنان يشكّل مطلباً غربياً وإقليمياً على غرار الستاتيكو الذي كان قائماً في زمن الوصاية، ومؤشرات تغييره بدأت خارجية وانتقلت إلى الداخل من الانسحاب الإسرائيلي في العام 2000 إلى ١١ أيلول وصولاً إلى إسقاط نظامَي صدام وطالبان، وبالتالي طالما أن لا مؤشرات تغيير خارجية قبل تبلور المشهدين النووي الإيراني والأزمة السورية، فأيّ محاولة لتحريك الوضع في الداخل تكون ارتداداتها سلبية على الجميع.
سادساً، وصول مرشّح من ٨ أو ١٤ آذار إلى رئاسة الجمهورية سيؤدي إلى خلط الأوراق، وهذا الأمر غير مرغوب إسلامياً وغربياً الآن. لكنّ إصرار عون على حجز الرئاسة، ومسايرة «حزب الله» له، أدى إلى إطالة أمد هذا الفراغ، وذلك بانتظار أن تتبلور التحوّلات الخارجية، والتحولات بنظر عون مسألة أشهر معدودة تمّ تمديدها مع تمديد النووي، وهو ليس في وارد التفريط بفرصته قبل اتّضاح رياح المنطقة بعد الاتفاق النووي.
سابعاً، المسيحيون تحاوروا في بكركي وتشاوروا، علماً أن اجتماعهم كان بهدف تحسين التمثيل المسيحي، فيما اجتماع المسلمين هو من أجل تحصين الاستقرار، وليس اتفاقاً على حساب المسيحيين، كما أنّ ما يصحّ على المسيحيين يصحّ على المسلمين، علماً أنّه كان من الأفضل ان يكون الحوار بين ٨ و١٤ آذار وليس ثنائياً بين «المستقبل» و»حزب الله»، إلّا أنّ هذا الحوار ليست وظيفته الوصول إلى أهداف استراتيجية.
ثامناً، ذكّر رئيس «القوات» في حديثه إلى الزميل عماد مرمل بأنّ رئيس «المستقبل» عرضَ على مسيحيي ١٤ آذار جدياً فكرة انتخاب رئيس «التيار الوطني الحر» رئيساً للجمهورية، وخلص إلى اعتبار أنّ من يتقدّم بعرض من هذا النوع لا يكون ضد وصول المسيحي التمثيلي، فيعني أنّ المشكلة ليست إسلامية-مسيحية، إنما تتصِل بتوازنات دقيقة خارجية وداخلية.
تاسعاً، المخاوف المسيحية من اتفاق إسلامي على حسابهم غير دقيقة لاعتبارين: الاعتبار الأول يتصل بالتوازن الدقيق السني-الشيعي، والصراع المفتوح بينهما، والذي لا يمنحهما ترف التخلّي عن تحالفاتهما المسيحية، والاعتبار الثاني يتصِل بوضعية مسيحيي ٨ و١٤ آذار، حيث أنّ حضورهما على الأرض وعلاقاتهما الخارجية لا تسمح بتجاوزهما بهذه البساطة، فضلاً عن أنه لا نيّة أساساً لدى «المستقبل» والحزب بإبرام اتفاق إسلامي على حساب المسيحيين.
عاشراً، التركيز على العنوان التمثيلي الرئاسي والنيابي والوزاري لا يعني إهمال التركيز على العنوان الوطني، والدليل أنّ هذا العنوان يتصدر كل العناوين في أدبيّات مسيحيي ١٤ آذار، لكنّ فعالية الدور تأتي من فعالية التمثيل، ومن حق المسيحيين البحث ضمن القوانين الانتخابية الوطنية عن تحسين تمثيلهم بانتظار تطوير الواقع السياسي باتجاه إلغاء الطائفية السياسية.
وعليه، كل المخاوف والهواجس المسيحية ليست في محلها، فيما على المسيحيين أن يتعاملوا بواقعية مع طبيعة الصراع واللاعبين والتوازنات، وأن يدركوا بأنّ وضعهم اليوم أفضل من السنّة الذين يواجهون التطرف داخل بيئتهم، وأفضل من الشيعة الذين دخلوا في مواجهة مع محيطهم، وأكلاف هذه المواجهة ستكون باهظة جداً عليهم.