الأمثولة الأبرز التي يمكن استخلاصها من تجربة الأعوام الممتدة من انتفاضة الاستقلال في العام 2005 إلى اليوم أنّ الواقعية تتفوّق على المبدئية، وأنّ منطق التسوية هو الغالب، وأنّ الحلول الجَذرية مستبعَدة ومستعصِية.
القاعدة التي تحكم المشهد السياسي واضحة تماماً: الطرَف الذي يتحكّم بإدارة اللعبة هو «حزب الله». فإذا وجَد أنّ هذه اللعبة لا تناسبه يعطّلها، وعندما يلمس حاجته إليها يُعيد لها الاعتبار. والأمثلة كثيرة: عطّلَ حكومة الرئيس فؤاد السنيورة إلى أن انتزَع الثلث المعطّل في «اتفاق الدوحة». أسقطَ حكومة الرئيس سعد الحريري عندما شعرَ بأنّ موازين القوى الخارجية مالت لمصلحته.
أعاد الاعتبار للعلاقة مع الحريري في اللحظة التي عجزَ فيها عن مواجهة الشارع السنّي الغاضب. واليوم يمدّ يدَه للحوار استكمالاً لهذا التوجّه.
وعلى رغم أنّ «حزب الله» هو المبادِر، والفريق الآخر هو المتلقّي، ولكن ما يجدر تسجيله أيضاً أنّ الحزب لم يتمكّن بين ٧ أيار ٢٠٠٨ و١٢ كانون الثاني ٢٠١١ (تاريخ إسقاط حكومة الحريري) من وضع يدِه بشكل مطلق على الحياة السياسية، على غرار الإطباق السوري في زمن الوصاية، إلّا أنّه بالمقابل أزالَ أيّ عائق يهدّد استراتيجيته ودورَه الإقليمي.
فالخلاصة الأساسية لتجربة العقد الأخير تؤكّد على الآتي: أوّلاً، «حزب الله» ليس في وارد إعادة النظر بدوره كلاعب إقليمي، وسلاحه، ومقاومته... ثانيا، ١٤ آذار ليست في وارد الذهاب في مواجهة مفتوحة مع «حزب الله» إلى حدّ إعادة إنتاج الحرب الأهلية. ثالثاً، المجتمع الدولي أولويتُه الاستقرار في لبنان من أجل تحييده عن أزمات المنطقة بمعزل عن الطرف الذي يتولّى إدارة الاستقرار.
رابعاً، التسوية النهائية في لبنان تتوقّف على مسار التسويات في المنطقة ومصيرها. وفي هذا السياق قد تكون ١٤ آذار بهذا المعنى وفّرت على اللبنانيين حرباً أهلية جديدة يدفع ثمنَها الشعب اللبناني من لحمِه الحيّ، إذ بين الحرب واستمرار تآكُل الدولة، اختارَت التسويات التي تحافظ على الاستقرار وتُبقي هذه الدولة ولو بالحدّ الأدنى المطلوب، ولكنّ التسويات المتتالية عوّدَت اللبنانيين على التعايش مع سلاح «حزب الله» وصولاً إلى قاعدة تحييد الملفّات الخلافية من أجل الاتّفاق على تسيير أمور الدولة وشؤون الناس.
والتحييد عمَلياً هو فكّ اشتباك، لأنّ ميدان الاشتباك السياسي هو المؤسسات، وبالتالي المستفيد الأوّل من الانتقال إلى مرحلة تنظيم التعايش هو «حزب الله»، إلّا إذا كانت تعتبر ١٤ آذار أنّ انتزاع الاستقرار هو مكسَبٌ لها، فيما هو حاجة قصوى للحزب اليوم الذي نجحَ، فضلاً عن عامل الاستقرار، بتحييد سلاحه، ومقاومته، وقتاله في سوريا عن الاشتباك العمَلي، لأنّ المواقف التذكيرية بين الحين والآخر هي شكلية وغير فعّالة.
ولا مبالغة بالقول إنّ الوضع الحاليّ قد يكون مثالياً للحزب الذي يقوم بدوره الإقليمي على أكمل وجه في ظلّ وضعٍ داخليّ مساعد. وهذا الوضع لم يتوفّر بعد حرب تمّوز 2006، ولا بعد انتخابات ٢٠٠٩، ولا بعد تكليف الرئيس نجيب ميقاتي. وقد تكون المرّة الأولى منذ العام ٢٠٠٥ التي ينجح فيها الحزب بإرساء معادلة جديدة قوامُها فكّ الارتباط بين دوره الداخلي ودوره الخارجي.
والاعتراض على دور الحزب الخارجي لا يقود إلى الاشتباك معه على دوره الداخلي. وهذا الوضع الجديد غير قابل للتعديل إلّا في حالتين: تطوّرات خارجية تتّصل بالأزمة السورية أو الإيرانية، أو انقلاب «حزب الله» على هذا التفاهم، عِلماً أنّه ليس مضطرّاً للانقلاب على تفاهم يخدم مصلحته الاستراتيجية من خلال إعطاء إشارة للغرب والسُنّة في العالم العربي أنّه قادرٌ على التعايش والشراكة مع السُنّة في لبنان، فيما الشراكة التي يتحدّث عنها هي وهمية، لأنّه يُمسك بمفاصل الدولة الأساسية.
وإذا كان يُستبعَد أن تنقلبَ موازين القوى لمصلحة الحزب بشكلٍ مطلَق وتدفعه إلى استنساخ التجربة السورية بين عامَي ١٩٩٠ و٢٠٠٥، فإنّ الوضع الحالي، بالنسبة إليه، هو مثاليّ، فيما الطرفُ المتضرّر هو ١٤ آذار، لأنّ مشروع الدولة سيبقى معلّقاً حتى إشعار آخر.
وهذا الوضع المستجدّ لا يعني أنّ ١٤ آذار تنازلَت أو في واردِ التنازل عن ثوابتِها وقناعاتها وإيمانها بمشروع الدولة، إلّا أنّها تحت عنوان الاستقرار مستعدّة للتضحية بكلّ شيء تلافياً للحرب.
والخلاصة أنّ العقد الأخير قد يمتدّ عقوداً. الواقعية تغَلّبَت على المبدئية. القناعات في مكان، والممارسة في مكان آخر. وكلّ مَن يُبدّي المبدئية على الواقعية يكون كمن ينتحرُ أو يُخرج نفسَه من المعادلة السياسية.
فلا مكانَ للثورة ولا الثوّار. ولا مكان للتغيير والتغييريين.
ولا مكان للأفكار الكبرى والمشاريع الطموحة. إنّه زمن الواقعية السياسية، وزمن تصريف الأعمال، وزمن التسويات و«الترقيع» والتطبيع والتكيّف مع الأمر الواقع...