أثبتت الوقائع أن العصبية المزدوجة، على المستوى الوطني، عصبية لا تؤدّي إلى قيام لحمة راسخة بين أعضاء الوطن الواحد. فلا يمكن الجمع ما بين العصبية الوطنية من جهة، والعصبية الدينية أو المذهبية أو الطائفية من جهة أخرى.
كما أثبتت الوقائع أن الهوية الدينية، بكل أنواعها، وإقحامها في بنية الهوية الوطنية لا يمكن أن تؤدّي إلا إلى مزيد من التشرذم والتفكّك في الاجتماع الوطني. يسعنا القول إنّ الجمع ما بين العصبيتين هو كالجمع ما بين متناقضَين متضاربَين متضادَّين متعارضَين متدافعَين. الانتماء الديني انتماء إلى إيمان وتراث وتاريخ وعقائد وشرائع وعبادات ووصايا وقيم وفضائل وأخلاق... لكنّه، قبل كلّ ذلك، تربية على الرحمة والمحبة والسلام، واحترام الإنسان وخدمته.
فالله ليس في حاجة إلى مَن يخدمه، بل يبتغي أن يخدم الإنسان أخاه الإنسان، وهكذا فقط يكون قد خدم الله خير خدمة. لذلك، الانتماء الديني ينبغي أن يؤسّس للألفة والوئام ما بين أبناء المجتمع الواحد، وأن يدفع بالإنسان إلى التعاون مع شريكه في الوطن الواحد على قاعدة المساواة والاحترام المتبادل.
أمّا حين يتجاوز الانتماء الدينيّ حدوده إلى أن يصبح مكوّناً أساسياً من مكوّنات الانتماء الوطني، فلا ريب أن الانتماء الوطني سوف يعتريه الخلل، وتصيبه العيوب، ممّا يؤدّي إلى انفجاره وتشظّيه، عاجلاً أم آجلاً. الدين ينشّئ الإنسان، أو ينبغي أن ينشّئه، على البرّ والخير والعدل والانصاف.
هذا مدخل جيد إلى بناء الوطن الذي يقوم على عقد اجتماعي توافقي، وإلى بناء الدولة التي ينبغي أن تكون المجال العام الحيادي الذي يجد فيه المواطنون كافة حقوقهم وواجباتهم القائمة على المساواة المطلقة، بعيداً عن القيد الديني أو الطائفي. أما عندما يصبح الانتماء الديني وما يتفرّع عنه شرطاً من شروط المواطنة، وعندما يصبح قاعدة للتمييز، في الحقوق والواجبات، ما بين المواطنين، يكون قد تعدّى وظيفته العبادية وأصبح عاملاً للنزاع والفتنة.
حينذاك يصبح عاملاً للغلبة العددية القهّارة، يصبح حزباً فئوياً لا يهمّه سوى مصالح أتباعه، ويصبح تالياً عاملاً لفساد الدولة والمجتمع وخرابهما، ولكن أيضاً لفساد الدين وخرابه. الانتماء الديني أوسع من الانتماء الوطني، لذلك لا يستقيم الانتماء الوطني إذا تمّ خلطه بالانتماء الديني.
ودليلنا على ذلك هو ما يجري في بلادنا، حيث نرى العصبية الدينية والمذهبية تلغي الحدود الوطنية القائمة، ونرى أنّ العديد من المواطنين هم، فعلياً، أقرب إلى أتباع مذاهبهم من غير اللبنانيين منهم إلى اللبنانيين من أتباع المذاهب المغايرة.
وما يصحّ في شأن اللبنانيّين يصحّ أيضاً في شأن السوريين والعراقيين وسواهم. المشكلة تكمن في أننا نستغلّ الانتماءات الدينية في سبيل الحصول على مكاسب سياسية أو وطنية، فيما المرجوّ هو عكس ذلك تماماً، أي الانتفاع من القيم الدينية في سبيل بناء مواطنة سليمة.
هكذا، يتحقّق التكامل ما بين العصبيتين الدينية والوطنية عوض الإلغاء المتبادل، فنعيد إلى الديانات وظيفتها الأصلية في التربية على الأخلاق والتعامل بالحسنى.