لن ينعقد الحوار السنّي- الشيعي كرمى لعيون الرئاسة. هو محاولة لإدارة التسويات الموضعية، بالحدّ الأدنى من الأضرار. وإذا كان انتخاب رئيس جزءاً من سلّة التوافقات، فليكن... وإلّا فلا مشكلة في الفراغ!
تتداوَل أوساط ديبلوماسية كلاماً حسّاساً في ملف رئاسة الجمهورية، ومفادُه: إنّ المجتمع الدولي يتدخّل في لبنان، فقط، عندما يصبح معرَّضاً للانفجار. ولذلك، هو أوعزَ بولادة الحكومة التوافقية ووافقَ على التمديد «اللاديموقراطي واللادستوري» للمجلس النيابي مرّتين. فالغاية تُبرِّر الوسيلة.ولكن، من سوء حظِّ رئاسة الجمهورية أنّ الفراغ فيها لم يعُد منذ ربع قرن يثير إشكاليّة تؤدّي إلى الانفجار أو حتى إلى زعزعة الاستقرار السياسي والاقتصادي والأمني في المعنى الحقيقي للكلمة.
ويعود ذلك إلى سببين أساسيين:
1- إنّ الطائف انتزَع من الرئاسة صلاحيات أساسية إلى حدِّ تعطيلِها أحياناً، وجعَلَها وحدَها رهينة بنود دستورية مجحِفة، ورهينةَ مؤسسات أخرى، خلافاً لرئاستي المجلس والحكومة.
وهذا الإجحاف ضربَ الرئاسة ميثاقياً أيضاً. فالمسيحيّون استُبعِدوا عن معادلة الشراكة في الحُكم... ليس إلى أن يُنتخب رئيس للجمهورية، بل إلى أن يجري إصلاح الخَلل في صلاحيات الرئاسة.
2- إزداد المسيحيون ضعفاً بعد الطائف. وهذا الضعف هو سببٌ ونتيجة في آن معاً: سببٌ في بقاء الرئاسة ضعيفة... ونتيجة لاستضعاف الرئاسة!
ولذلك، تبدو رئاسة الجمهورية يتيمة. وهي لم تجد أحداً يقاتل من أجلها، فيما «الأبناء» يتقاتلون على المنصب لا على الموقع.
واليوم، هناك قوى مذهبية مستعدّة لخوض المعارك والمغامرة بالاستقرار. وهناك مَن يقطع الطرق لمطالب معيشية أو نقابية أو للضغط من أجل الإفراج عن مخطوف، لكنّ أحداً لا يتحرّك لانتخاب رئيس للجمهورية.
وعلى العكس، هناك اقتناعٌ لدى البعض بأنّ موقع الرئاسة هو جزء من المقايضة المذهبية عندما ينضج أوانها، وهو لم يعُد جزءاً من المعادلة المسيحية - الإسلامية، أي المناصفة الميثاقية.
وسيكون تيار «المستقبل» و«حزب الله»، ومعهما الرئيس نبيه برّي والنائب وليد جنبلاط، أمام احتمال إبرام التسوية حول الرئاسة في الحوار المنتظر: أوّلاً إذا نضجَ أوان الانتخابات، وثانياً إذا توافَقا على الإسم- التسوية.
وإذا تمّ التوافق، فسيُقنِع كلّ منهما حلفاءَه المسيحيين بالخيار التسوية. وواضحٌ أنّ مهمّة «حزب الله» في إقناع العماد ميشال عون بالانسحاب، أكثر صعوبةً من مهمّة «المستقبل» لدى الدكتور سمير جعجع.
فردُّة فعل عون ستكون أقوى من ردّة فعله في الدوحة، وأقوى ممّا كانت في التمديدين الأوّل والثاني للمجلس النيابي، لأنّها تعني له الفقدان النهائي للأمل بالرئاسة. لكن بعض المطّلعين يعتقدون بأنّ حدود الرفض عند عون معروفة. وفي النهاية، هو لن يغادر حضنَ «الحزب»، فإذا تركَه إلى أين يذهب؟
وما يمكن أن ينجز الحوار لن يكون سوى ترقيع لمنع انفجار الوضع. وبعيداً عن الشعارات الاستهلاكية، لا يرى أيّ من المتحاورين أنّ إنجاز ملفّ رئاسة الجمهورية شرطٌ حتميّ للاستقرار. وعلى العكس، إذا تبيّنَ أنّه سيكون عاملَ خلاف مذهبي ينعكس على البنود الأخرى في الحوار، فستُطوَى صفحتُه إلى مرحلة أخرى.
لذلك، سيبقى موقع الرئاسة ضحيّة الصراع السنّي- الشيعي على مواصفات الرئيس، وضحيّة الصراع المسيحي- المسيحي على إسم الرئيس. ولن تجد الرئاسة مَن يتولّى إنقاذَها من مأزق الاستضعاف واستعادة صلاحياتها الأساسية المفقودة، لأنّ ذلك ليس همّاً عند أحد... سوى الذين يَصِلون إلى هذا الموقع. وهذه حال الرؤساء الثلاثة بعد الطائف (الهراوي ولحّود وسليمان). فهؤلاء طرَحوا مشاريعَ في هذا المجال، ولكن عبثاً.
ويطرح البعض سؤالاً «نظرياً»: هل على المسيحيين أن يبادروا إلى تحرّكات سلبية على مستويات مختلفة، بما يثير مخاوفَ المجتمع الدولي بأنّ الفراغ الرئاسي يزعزع الإستقرار، فيتدخّل لفرض انتخاب رئيس؟
وهذا السؤال «نظري» لأنّ الزمن الذي كان فيه المسيحيون قادرين على هزّ الاستقرار، كسواهم، قد بات من التاريخ. أمّا «عملياً»، فالمسيحيون أنفسُهم بأنفسِهم يجعلون من الرئاسة دميةً ومادةً لابتزاز الآخرين... فكيف يُراد منهم أن يعترضوا؟ وعلى مَن سيعترضون؟