تعبَ الطرفان، ولا بدّ من العودة إلى البيت، ذهبَ الأوّل ليقدّم الشاش، والدواء الأحمر، والحليب للأطفال، فيما ذهب الثاني بسلاحه ورجاله تحت شعارات لم تُقنع أحداً، ولم تُسمِن، أو تُغنِ عن جوع. شعرَ الطرفان بأنّ الأرض تميد من تحتهما، بمن فيها وعليها، فالزمن زمن عواصف، ومرصَد وزير الداخليّة نهاد المشنوق يبشّر بأنّ «الآتي أعظم»، وبالتالي لا بدّ من تنظيف المجاري حتى لا يغرقَ الجميع.
لا يحتاج الحوار إلى مَهر، ولا إلى «مقدَّم ومؤخَّر»، لأنّ المطلوب ليس عقد قران ما بين الطائفتين، بل «حوار الضرورة»، حوار أملته البيئة الاجتماعيّة التي تعاني، هناك تحدّيات أمنيّة، صحّية، معيشيّة، إستيعابية ضاغطة.التورّط في سوريا كان خطيئة مميتة لا يبرّرها أيّ سبب مهما علا شأنه، وبدلاً من تحصين البيت، فتحنا الأبواب والنوافذ، وإذ بالإعصار يُعربد في صحن الدار، فتَغيَّر المزاج، واختلَّ التوازن الأمني، الاجتماعي، المعيشي، وليس صحيحاً أنّ الأزمة محصورة فقط بين إسلام معتدل وآخر متطرّف، بل تكمن أيضاً في التغيير الديموغرافي الذي يُحدث انقلاباً على كلّ الأسُس والتوازنات التي قام عليها البيت اللبناني بمسيحيّيه ومسلميه.
يعرف الرئيس سعد الحريري أنّ «عكّار الإعتدال» أصبحَت على خطّ تماس مع «عكّار الوافدين» بتعتيرهم ومصائبهم وهواجسهم و»مشاريعهم». بيئة زاحفة تريد موقعاً يليق بها ضمن بيئة مقيمة بحرمانها المزمن، وعلى حسابها، فماذا بقيَ لتياره في عكّار سوى تلقّي السهام. الأمر يسري أيضاً على «طرابلس الإعتدال» التي تعاني بدورها، والتي شهدَت حتى الآن أكثرَ من عشرين جولة عنف، والحبل لا يزال على غاربه.
ويسري أيضاً على صيدا، والإقليم، والبقاع الغربي... مجتمع ينوء، يرزح، يَغرق، وفيضان النزوح يجتاح كلّ شيء، الأرض، الخيرات، أبواب الرزق، وها هو يجتاح الهوية السياسيّة، والوطنيّة.
يعرف الحريري جيّداً أنّ البيئة الوطنيّة اللبنانية عموماً، والبيئة السنّية خصوصاً، لم تتمكّن حتى الآن من استيعاب البيئة الفلسطينية داخلَ المخيّمات، والتي حوّلتها دويلات داخل الدولة، فكيف الحال مع البيئة السورية الزاحفة، والتي تأخذ في طريقها البشر والشجر والحجر من دون أن تستقرّ حتى الآن في مخيّمات معروفة، مضبوطة، مراقبة، والتي شاء اللبنانيون أم أبوا ستتحوّل بدورها دويلات داخل الدولة في ظلّ الكيديّة السياسيّة ـ المذهبيّة الضاربة أطنابها، وأيضاً في ظلّ دولة الفراغ والتمديد. يتحدّث إبن طرابلس، وصديق الحريري، وزير الشؤون الإجتماعيّة المحامي رشيد درباس عن ألف مخيّم عشوائي فوضوي على الأراضي اللبنانية... و»أبشِر بطولِ إقامةٍ يا مربعُ».
ويعرف حزب الله أنّه حمّل الطائفة أكثر وأكبر من قدرتها على الاحتمال، وأخذَها في مشاوير بعيدة لا ترغب في كثير منها. وقفَ له لبنان والعرب إجلالاً بعد حرب التحرير في العام 2000، بعد هذا الإنجاز، بدأت الصورة تهتزّ، والصدقيّة أيضاً، ومن يقف على مشارف يافا وحيفا وتل أبيب لا يضيع في معارج بريتال والقلمون الضيّقة.
يعرف الحزب أنّ البيئة تعاني، وتتأقلم مع المعاناة لكن بوجوه جديدة، ومعايير مختلفة، فالسهل لم يعُد خزّان المقاومة، لأنّ أهله منهمكون باهتمامات ومشاغل أخرى، لم يعُد الزمن زمنَ جمعِ المحصول، وجَني المواسم، بل زمن التعاطي مع «الضيف»، ورفع الحيف. نداء «إقرعوا الطبول، وأسرجوا الخيول ضد الاحتلال الإسرائيلي، كان له وقعُه في العام 2000»، الآن لم يعُد له من صدى لا على المستوى الوطني، ولا على المستوى الطائفي، بعد التلاعب الخطير في التوازنات الوطنيّة التي هي لكلّ لبنان واللبنانيين، وليست حكراً على طائفة.
يعرف الحزب أنّ السهل يضيق بأهله، فكيف بـ»الضيوف» الوافدين، ويعرف أنّ الحال في بتِدعي ليست على ما يرام، ولا في عرسال، ولا في بريتال، ولا في حيّ الشراونة، ولا على طول الحدود المتعمشقة على سلسلة جبال لبنان الشرقيّة.
يعرف الحزب تماماً أنّ الخطاب الإستنهاضي لا يزال بألف خير، كاريزما، وإطلالة، ونبرة، ومفاصل كلمات وعبارات، وجمهور «يكبّر» ويرفع القبضات في الهواء، لكنّه يعرف أيضاً أنّ الطائفة الحاضنة لم تعُد على ما يرام، لأنّ التحدّيات التي تواجهها لا تعالَج فقط بالخطابات الاستنهاضيّة.
يتحدّثون عن حوار يساعد على فتح أبواب قصر بعبدا أمام رئيس توافقي.
عظيم!، وبارك الله سُعاة الخير، لكنّ أزمة الرئاسة هي نتيجة وليست سبباً، وعلى الذين يهمّهم التوافق على رئيس، أن يتوافقوا أوّلاً، على العودة إلى البيت، وعندها يصبح لكلّ حادث حديث.