هي من المرات النادرة التي تتحوّل فيها قضية رهائن عسكريين، من مسألة عسكرية لها آلياتها الخاصة السابقة لطابعها الإنساني، إلى مسألة سياسية عامة، بقياسات مختلفة ومقاربات متضاربة، ما يجعلها خارج الإجماع الوطني.
أمر التفاوض بشأن العسكريين المخطوفين يُترك لمنظمات معنية كالصليب الأحمر أو الهلال الأحمر الدوليين، وإذا تعذر ذلك، فتتولاها أجهزة أمنية خاصة تنسق بين الطرفين المعنيين. وعادة ما يكون الأسر بين جيشين نظاميين، يعترفان من حيث المبدأ باتفاقات جنيف وملاحقها بخصوص معاملة الأسرى. وقبل جنيف كانت هناك عهود وتقاليد إسلامية، تحفظ حق الأسير وتصونه، وتكتفي بشد وثاقه كي لا يهرب، وفي بعض الأحاديث يقدم الأسير على محتجزه، لعله يهتدي بسماحة الإسلام وعفوه.
في لبنان الأمور تأخذ غير مجراها. مخطوفو الجيش والقوى الأمنية، وقعوا بيد جهاز عسكري غير رسمي، استبدل سماحة الإسلام بقطع الرؤوس. وأقنية التفاوض تمر عبر إرهابيين وقطاع طرق، بحسب التصنيفين الدولي والمحلي لجبهة "النصرة" و"داعش" و"أبو طاقية". وعندما يرتفع شأن المفاوضين ربما يصل إلى مستوى وزراء، كل منهم ينادي على طائفته.
ومن المفارقات أيضاً، أن الخطف وقع على الأراضي اللبنانية، والأسرى في جرود على الحدود التائهة بين سوريا ولبنان، لكنها ليست تائهة عن جولات الوسطاء وأهل الأسرى. ومطالب الخاطفين موزعة على جيشين بينهما معاهدة "تعاون وتنسيق"، إلا انهما ممنوعان عليهما الآن. وأهالي المخطوفين يتظاهرون ليل نهار لإطلاق أبنائهم، المفترض أن تكون أسماؤهم سرية، وكذلك تحركات أهاليهم، كي لا يستغل الخاطفون عواطفهم. اللائحة لا تقف هنا، هناك مفارقات كثيرة تثير الاشمئزاز، لا الاستغراب، كتوريد المؤن والمال إلى الخاطفين، مثلاً.
للقضية شق إنساني، لا أحد يستطيع أن يجرؤ ويقول إنه يضع نفسه مكان ذوي الأسرى. المأساة الشخصية لا تقاس بالآم الأرض، وليس هناك ما هو أصعب من انتظار العاجز.
لكن العسكري في صلب عمله وقَسَمه، يضع التضحية بالروح أولاً. وشعار مؤسسته "شرف، تضحية، وفاء". فكيف يكون الوفاء لدماء الشهداء بتمييع قضية المخطوفين وجعلها مدخلاً لخطف البلد و"شرفه". على الجيش أن يحسم هذه المسألة ويعزلها عن النقاش الدائر على وسائل الإعلام الالكتروني والمرئي، حيث حدُّ الصورة أنفذ من حد السكين.
البازار الحاصل في تسييس قضية العسكريين الأسرى، والذي حرفها عن مسارها العسكري، ليس في مصلحة أحد. حتى النائب وليد جنبلاط الذي أعرب عن استعداده إلى التفاوض مباشرة مع الخاطفين، سيخرج خاسراً بمجرد طرح مسألة أهليته كوسيط، بين من؟ ومن؟ ونحن اليوم بتنا نسمع تحولاً في المزاج العام، من متضامن بالكامل مع المخطوفين إلى متذمر من قطع الطرقات وحرق الإطارات.
الحرب على الإرهاب، حرب "غير متكافئة"، ولا تحتمل أساليب القتال التقليدية ومعاييرها. وبما يعنينا فإن الجيش اللبناني، غير مؤهل عسكرياً، لقتال طويل الأمد، في الجرود أو في أي ساحة أخرى، نظرا لقدراته التي هي من قدرات النظام اللبناني العاجز وغير المؤهل. وكون الحرب "غير متكافئة"، ربما على الجيش التفكير في وسائل مواجهة مبتكرة، يستطيع من خلالها الرد على من ينتقص من هيبته، كأن يشكل وحدة عمليات خاصة، كسائر جيوش العالم، سريعة الحركة، وقادرة على اختراق نقاط العدو، واعتقال عناصره وقادته، لاستبدالها بعسكرييه.
ليست دعوة إلى شيطنة الجيش الوطني، بل محاولة لتحريره من عقم السياسة، وحسابات الطوائف، التزاماً بشعار "شرف، تضحية، وفاء". وللتذكير، فان المؤسسة العسكرية، ربما هي المؤسسة الوحيدة التي لا تزال خارج دائرة الاتهام بالمحسوبية المذهبية والطائفية، وإن كان يضاف إلى ذلك كلمة: "تقريباً".
(منير الخطيب)