هدفان أساسيان رسمهما سعد الحريري لنفسه من إطلالته التلفزيونية، أراد التصويب عليهما بالصوت والصورة: التوطئة لحوار «غير شعبي» مع «حزب الله» عبر التوجّه إلى جمهوره لتبليعه «شوكة» يعرف مسبقاً أنّها ستعلق في حلقه.
ومن ثمّ إخراج القادة الموارنة من حلبة الرئاسة، بضربة سعودية قاتلة، حلفاؤه أولاً، ومعهم ميشال عون. طبعاً لن تكون تداعيات المبادرة الحريرية على مرشحي الصف الأول، هي ذاتها، أو بالثقل نفسه. تختلف وطأتها بين قطب وآخر.
لكل منهم حساباته وهامش تحركه.. ووزنه. لم تكن ـ ولن تكون ـ طموحات بطرس حرب، على سبيل المثال، على قياس أحلام رئيس تكتل «التغيير والإصلاح».
الأول يعتبر وصوله إلى بعبدا ضربة حظ قد لا تصيب إلا إذا أصاب «الطابات الست». فيما الأخير يرى الملعقة داخل حلقه، ولا يحتاج سوى إلى دفشة ليهضمها... ومع ذلك، بالنسبة لميشال عون، لم يكن ثمة حاجة ليرى بعينيه البطاقة الحمراء تُرفع بوجهه أمام ملايين المشاهدين الذين تابعوا وقائع الحلقة.
هو بنفسه سبق له أن نعى «الصوت السعودي» يخرج من سلّته حين تحدث صراحة عن رفض سعود الفيصل له.
وهي الرسالة التي اعتبرها بعض «المستقبليين» أنّها دعوة صريحة من رئيس «تكتل التغيير والإصلاح» للجلوس في صالونه، بحثاً عن رئيس توافقي. هكذا تُفهم المقاربة التسووية التي قدمها الشيخ سعد على الهواء مباشرة، فاتحاً الباب أمام بحث علني عن رئيس توافقي لا تناسب بزّته مقامات القادة الموارنة الأربعة، بمثابة ورقة نعي الدعم السعودي للجنرال، ليس أكثر.
لقد خرج الدخان الأسود، وما عاد بالإمكان إخفاؤه. لم يعد هناك من حرج أمام رئيس «المستقبل» لمراعاة مشاعر سيد الرابية تخوفاً من حساسية مفرطة قد تخرجه من هدوئه ومن حلقات الحوار المتقطع مع «الرسل الزرق».. لقد رفع الفيتو السعودي في صحراء الرئاسة اللبنانية، وفي سوق المفاوضات الإقليمية. وحان وقت الانتقال إلى مربع جديد. لا يعني ذلك أبداً، أنّ الجنرال قرر الاستسلام ورفع الراية البيضاء.
كلام سعد الحريري الأخير لم يغيّر من استراتيجية الرجل الثمانيني، ولم يبدّل من موقفه. لا بل هو يزداد تمسكاً بذخيرة الأفكار والطروحات التي حملته إلى حلبة السباق. حتى اللحظة، لا أثر لمبادرات تنازلية في الصالون البرتقالي قد تفتح سجل «الخيارات الثالثة»، ولا يمكن لأي زائر للرابية أن يتلمّس من جنرالها، كلاماً فيه بعض «الملامح التسووية».
بهدوء لافت قارب ميشال عون سياسة اليد الممدودة التي أطلقها سعد الحريري. بنظره فإنّ رئيس «المستقبل» لم يتقدّم خطوة إلى الأمام، وإنمّا بالعكس هرب من المواجهة ــ الأزمة التي يطرحها الجنرال. المسألة ليست محصورة بهوية الرئيس العتيد ولا بمن يشغل قصر بعبدا بعد ميشال سليمان.
لا بل هي قضية مناصفة وشراكة حقيقية تعبّر عنها الميثاقية، تبدأ بالرئاسة ولا تنتهي بقانون الانتخابات، وتمرّ بطبيعة الحال بكيفية إدارة شؤون الدولة. لا يكفي، بنظر رئيس «تكتل التغيير والإصلاح»، إنشاء طاولة حوار ثنائي أو أخرى مستديرة لصناعة رئيس، إذا لم تعترف كل مكونات الوطن بوجود خلل بنوي في صناعة السلطة، المتمثلة في أكثر من موقع.
وهذا لم يحصل حتى الآن. يصرّ الرجل على أنّها فرصة ذهبية للبننة الحلّ لأزمة تتخطى عتبة القصر الرئاسي لتطال كل مقومات الدولة، وذلك ضمن تفاهم وطني لا يعلو رأسه، أحكام اتفاق الطائف، الذي يتخذه الفريق الآخر حجّة لتوجيه الاتهام بحق «التيار الوطني الحر» بسعيه إلى الانقلاب على وثيقة الوفاق الوطني والمطالبة بمؤتمر تأسيسي.
وهذا ما دفع بالجنرال إلى توجيه رسائل إلى الملك السعودي عبد الله بن عبد العزيز والملك المغربي محمد السادس والرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة، لكونهم «الضامنين لتنفيذ اتفاق الطائف»، تأكيداً منه على احترام هذه الوثيقة. ولهذا يعتبر بعض زوار رئيس «تكتل التغيير والإصلاح» أنّ ما يفوه به رئيس «تيار المستقبل» هو العمل على «انتخاب أي رئيس ما عدا ميشال عون».
ولهذا تراه يتحجج تارة بحماية «الطائف»، وطوراً بفتح أبواب مغلقة مع الضاحية الجنوبية. وكل ذلك بهدف الحؤول دون تكريس شراكة المسيحيين فعلا لا قولاً.
يدرك الجميع أنّ اللعب اليوم هو ضمن الوقت الضائع، كما يعرف ميشال عون جيدأً أنّ الرابية ممر إلزامي لأي رئيس جديد.
ولهذا لا يبدي اعتراضاً ولا حتى انزعاجاً على مشروع حواري قد يجمع حليف «التكامل الوجودي» مع خصمه، لا بل يقول بلغة الواثق: «فليأتوا بأي رئيس يريدون من دون وجودي على الطاولة.. إذا استطاعوا فعل ذلك».