بهامتِه الأدبية والفكرية الشامخة، بقامته المديدة العالية الجبين، بطلَّته البهية الأنيقة... مذ عرفناه، لم يُعوِّدنا مرّةً أن يلتوي له غصنٌ، أو تُشْعَر منه كأسٌ، أو تترنَّح فيه ورقةُ عمر. فهل يمكن أن نصدق أن الموت «الذي كان لعبته»، يمكن أن يخطفه من الوطن العظمة الذي أحب، بل قل، بعد الله، عبد؟
كأني، برحيله عن مئة وعامين، يتيتَّم لبنان.
مذ عرفناه، ما عرفناه إلَّا للخطر صديقاً، قاهراً القلق، مسكوناً بالعظمة. ما علَّمنا إلَّا أن نفرحَ، إلَّا أن نُصبحَ ونُمسيَ على مجد، أن نمتشق الحزن ليس إلَّا لنقهرَ به الحزن، أن نجعل أعيننا تُنبت ورداً لا دمعاً.. فما صدَّقنا، ولن نصدق إلَّا أنَّه يغلب الخطر، أي خطر، كمن يكتب قصيدة. غريب أن تكون صورة إنسان، في مخيلتك، صورة إله. بهذه الصورة، يستوطننا. ولا نعرفه، مذ عرفناه، إلَّا على تلك الصورة. أنى يكن، ما كان همَّه عمرٌ، يسألْ، فحسب، عن حبيبته «الزَّمانة» (يفضِّلها على الزَّمان). قد تمرُّ من دون أن تحيِّيه، فتسبقه فكرة، أو يخسر لحظة إبداع.
في أدعيتنا كان دوماً، أن يبقيه لنا الله، بوعيه وعطائه ويدِه نَهرِ الكَرَم، بصحَّته وهامته وقامته، يمشي كأنَّه يطير، كأنَّ الأرض تحت قدميه سماء. أن يبقيَه لنا الله كما قال هو في الشَّاعر الرُّوسيِّ شولوخوف:
وإنَّكَ خَطٌّ... كالشَّهامةِ واقفٌ
إِذا انهارَ ظَهْرُ النَّاسِ، أنتَ لَهُمْ ظهرُ.
فكيف إذا ما انهار الظهر الآن؟
الحِمْل ثقيل، يا «معلِّم». لكن يهون حين نقرأُك، حين نسمعُك، حين نقطع في عينيك بحر الصفاء، حين تأخذُنا إلى حلمك وتُسكِنُنا لحظاتٍ في قصائدِك واكتشافاتِك وعبقريَّتك. مهلَك! لا تقلق علينا، نحن صلاةٌ دائمة لك، موعودة منك بأن تباركَها، هنيهةَ نمسحُ شفاهَنا العطشى بزيت جبينك الشُّموخ، وقد انضم الآن إلى قمم لبنان العاليات. هنيهةٌ تُطرب لصوتك فيها الكلمات، ويروح الفكر يرقص فرحاً.
هنيهة عمر لا تتوافرُ دائماً، يا «معلِّم»، حين كان يتسعُ قلبُك وصدرُك وبيتُك لنا، فتُفيضُ علينا أملاً وعشقاً للعظمة وتطلعاً إلى فوق، إلى الجمال، إلى الفرح. هنيهة بنتُ «زمانتك» التي تلدنا كلَّ يوم.
ما انتهى، لن ينتهي، زمن فرحنا بك... وقد أبيت إلَّا أن تترك لنا، ثلاثة وعشرين مؤلفاً لم ترَ النور بعد، في الشعر، والنثر، والتاريخ، والجمال، تضاف إلى سبحة كتبك التي نصلي بها تساعياتنا، من «بنت يفتاح» و»قدموس»، إلى «يارا» و»رندلى»، فـ»عشتريم» و»القداس الحبروي» و»نحت في الضوء» و»شرر»، آخر ما نشرت.
ما انتهى زمن الفرح، وقد كنت بين حين وآخر، تطلع علينا بـ»لقية» من بضع كلمات، تعوض ما كان يمكن أن تقول، كأنك فوق على جبل الحكمة تختصر الزمن: «قَداسي وْكِبَرْ عَ المالْ، هيدا نحنَ فوق جبالْ». أو حين كنا نتحلق حولك نرتل شعرك، خلال قداس حضورك، وأنت أنت تتلوه، فيما أصابعك البعلبكات، تملأ المكان واللحظة.
كان سعيد عقل يعلو على الحزن... وسنعلو مثله عليه، لنفرح بأنه كما قال في قصيدة الورد، وصدحت فيروز ولحن عاصي ومنصور: «ان فليت... إترك عطر بهـ الكون». أطال الله بعمر عطره.
حبيب يونس