يبلغ عدد سكان محلة باب التبانة قرابة المائة ألف مواطن، يتكوّمون في بقعة جغرافية تكاد تحقـّق الأرقام القياسية في تجميع نقاط الحرمان والتجهيل والإفقار والإحباط.. وهي تشهد على مدى السنوات الماضية جولة تلو جولة من العنف، سواء في سياق الاشتباك التاريخي مع ميليشيات علي عيد ونجله رفعت، أو في سياق الاضطراب الأمني المتفلت والمدروس، وفي إطار الفوضى المنظمة التي تجذرت "طقوسها" في مدينة حملت لقب مدينة العلم والعلماء.. وباتت المدينة الأفقر على ساحل البحر المتوسط،، وفي منطقة كانت ذات يوم تسمى باب الذهب، فتحولت إلى باب التبانة المغرقِة في احتضان النسبة الأعلى للفقر والأمية والتسرب المدرسي!!
محطات في تاريخ الحرمان
ــ لم تكلف الدولة في العقود الغابرة حتى اليوم، نفسها عناء رفع آثار الحرب والتعويض على الأهالي بيوتهم التي طالها الدمار، ومؤسساتهم الهالكة التي لم تقم لها بعد الخراب قائمة، وطوال جولات الاشتباك بين التبانة وبعل محسن، تراكمت التعويضات دون صرف، وتعمقت الأزمة الاقتصادية الاجتماعية أكثر من أي وقت مضى.
ــ لم تحصل التبانة على نصيبها من استيعاب الميليشيات في الدولة، لأن الأحزاب التي كان أبناء التبانة يقاتلون في صفوفها لم تصل إلى التصفيات النهائية المفضية إلى تسوية الطائف، وإنشاء الجمهورية الثانية. فبقي الشباب من أبناء التبانة وعموم طرابلس، ممن خاضوا الحرب، خارج أي تغطية سياسية أو اجتماعية، وزاد الطين بِلّةً خضوع المدينة لاحقاً لهيمنة الوصاية السورية التي زادتها بؤساً على بؤس..
ــ لم تشهد التبانة مشاريع تنمية حقيقية، باستثناء ما تم إنجازه على صعيد البنية التحتية، بجهود من الرئيس الشهيد رفيق الحريري، أما المشاريع التنموية الكبرى، فهي تعثرت ولم تلامس الواقع وبقيت التبانة عنواناً للفقر والحرمان وغياب العدالة الاجتماعية.
نماذج من ملفات التقصير
للاستدلال على ما تقدم سنضع ثلاثة ملفات أساسية ونعرضها باختصار لتبيان حجم الظلم والحيف اللاحق بأهلنا في هذه المنطقة:
· الملف الأول: هو ملف التعليم:
ففي منطقة يبلغ عدد سكانها ما يزيد عن المائة ألف مواطن، لا تتوفر سوى بضع مدارس رسمية معظمها عفا عليه الزمن ويحتاج إلى ترميم وإصلاح.
في التبانة تعمل المدارس الآتي:
ــ مدرسة دار السلام، وهي مستأجرة لصالح وزارة التربية.
ــ مدرسة لقمان الرسمية – الملولة.
ــ مدرسة لقمان الرسمية للبنات – سوق الخضار.
ــ مدرسة السيدة (خاصة).
ــ مدرسة دنيا الأطفال.
ــ مدرسة (عائلية) أبو حلقة.
ــ وأخيراً المدرسة الرسمية النموذجية التي بناها الرئيس سعد الحريري وقدمها للدولة اللبنانية.
وباستثناء المدرسة الأخيرة، تعاني بقية المدارسة حالات متفاوتة من الحاجة للترميم والإصلاح، يصل بعضها إلى حد التهالك..
وبالطبع فإن هذه المدارس لا تكفي حاجة الأهالي، الذين لا يملكون القدرة على زجّ أبنائهم في خضمّ التعليم الخاص، مما يفتح الباب واسعاً أمام التسرب المدرسي، وأمام بطالة صعبة المعالجة، نظراً لغياب القدرات العلمية والكفاءات المهنية.
· ملف البطالة:
في ضوء واقع التعليم المزري، والوضع الاجتماعي السيء، ترتفع نسب البطالة بشكل متواصل، وتزداد تداعياتها على الواقع المحلي، فتنتشر أشكال التطرف الاجتماعي والديني وأنماط الانحراف بين الشباب، وإن كانت هذه الظواهر لا تزال ممكنة المعالجة.
· ملف المياه:
منذ قرابة 11 عاماً، شهدت التبانة تركيب شبكة مياه حديثة بمواصفات عالية، وتم إنجاز الشبكة. لكن المياه النظيفة لم تصل إلى المنازل، لأن خلافاً على نسب السمسرات حال دون استلام مؤسسة مياه لبنان الشمالي للشبكة، وبالتالي دون وصلها إلى البيوت.. واستمر الحال على هذا النحو حتى اليوم، حيث نرى أن الشبكة القديمة كثيراً ما يختلط فيها مياه الشرب بمياه المجارير، ومع مرور الأيام، نرجح أن تكون الشبكة التي يفترض أنها حديثة، قد تعرّضت لأشكال كثيرة من التخريب والاقتلاع..
وبدل لجوء الأهالي إلى المطالبة بحقهم في عمل الشبكة التي كانت جديدة، اتجهوا إلى حفر بضعة آبار أرتوازية، تصدّق بكلفتها بعض المحسنين، وانتهى حلم الشبكة الجديدة والمياه النظيفة..
هذه بعض النماذج التي نسوقها كعينة من الحرمان الشديد الذي تكابده التبانة، والذي سنبقى نغوص فيه، ونعرض أوراقه السوداء، لعلنا نستطيع استبدالها بأخرى بيضاء، فيها شيء من أمل، فما أضيق العيش لولا فسحة الأمل.
وإذا كان المسؤولون في الحكومة ونواب طرابلس يقولون إن هناك مرحلة اهتمام بالتبانة، فإننا ننتظر أن تشهد هذه المنطقة المنكوبة مشاريع تغير في حياة الناس، وتخرجهم، ولو جزئياً من دائرة اليأس والقنوط والاستسلام لخيارات الخروج على المجتمع..