ترقص المنطقة منذ عقود على اللحن الايراني. كأن الدور الايراني هو الموضوع الجوهري او المشكلة الأساسية. هذا يصدق على علاقات الدول داخل الاقليم. وعلى ادوار الدول الخارجية فيه. تضاعف هذا الواقع بعد انتحار الاتحاد السوفياتي. هزّت الثورة الايرانية المنطقة. واعتقد قادتها ان رياح الثورة ستتسرب الى الاقليم. شن صدام حسين حربه على ايران. فضّل ان يواجهها على ملعبها كي لا يضطر الى مواجهتها لاحقاً في شوارع بغداد. أرغم جمر الثورة على الانكفاء الى داخل الاراضي الايرانية. تلقت الثورة الايرانية في العقود الماضية خمس هدايا ثمينة. الاولى ان ولادتها ترافقت عملياً مع خروج مصر من النزاع العربي- الاسرائيلي. ادرك الخميني ومنذ اللحظة الاولى القيمة الاستثنائية لورقة معاداة اسرائيل واحتضان المقاومة ضدها مشفوعة بشعار «الموت لأميركا». ستأتي الهدية الثانية على يد حزب البعث الحاكم في عاصمة الأمويين حين اختار الوقوف الى جانب ايران الخميني ضد عراق صدام. اما الهدية الثالثة فقد جاءت من العدو الاول. فجأة اجتاحت قوات صدام حسين الكويت وأعلنت شطبها من الخريطة. انشغال العالم بعدوان صدام سيُعطي ايران الفرصة اللازمة لإعادة بناء قوتها وتجديد طموحاتها. وبعد عقد ونصف عقد، ستصل الهدية الرابعة وعلى يد «الشيطان الاكبر» هذه المرة وتتمثل في اقتلاع نظام صدام ثم الانسحاب وترك العراق عملياً في عهدة ايران مباشرة وعبر حلفائها. هذا اضافة عما حصل في الخاصرة الافغانية. وتمثلت الهدية الخامسة في ظهور «داعش» في العراق وسورية وفي زمن رئيس اميركي يعتبر نهجه هدية اضافية لإيران وهو باراك اوباما. وجاءت هدية «داعش» في وقت كانت فيه ايران تقاتل دفاعاً عن الحلقة السورية التي كان من شأن سقوطها ضرب البرنامج الايراني الكبير وتبديد عوائد الهدايا التي تلقاها. لا يمكن تفسير قوة ايران بالهدايا التي تلقتها. قوتها وليدة عناصر وسياسات مكّنتها من القدرة على توظيف الهدايا واستيعاب التحديات. انشأت الثورة الايرانية نظاماً صارماً حرم القوى الخارجية من امتلاك اوراق ضغط في الداخل الايراني. وأقامت شكلاً من الديموقراطية يعطي الناخب انطباعاً بأنه قادر على تغيير الرؤساء والحكومات، علماً ان القرار الاخير موجود في مكتب المرشد الممسك بكل الخيوط. نجحت ايران ايضاً في التحول مرجعية دينية وسياسية لمعظم الشيعة في العالم. هذا اعطاها حضوراً داخل الدول الاخرى من افغانستان الى لبنان، خصوصاً مع تقدم فكرة «ولاية الفقيه». تأكدت هذه القوة حين نجحت ايران في تحريك حلفائها في العراق ولبنان للقتال على الارض السورية لمنع سقوط نظام الرئيس بشار الأسد. وتحت شعار مقاومة الاحتلال الاميركي للعراق والتصدي لإسرائيل، انشأت ايران على اراضي الغير مجموعة من الجيوش الصغيرة تبين ميدانياً انها شديدة الفعالية من بيروت الى صنعاء. وضعت ايران قدراتها المالية والسياسية والاستخبارية والإعلامية في خدمة «الجيوش» الحليفة التي صارت صاحبة الكلمة الاولى في اماكن وجودها وإن لم تُمسك رسمياً بكل مفاصل السلطة. تكفي هنا الاشارة الى الروايات التي تتعلق بدور الجنرال قاسم سليماني والذي يبدو انه لم يتراجع على رغم وجود المقاتلات الاميركية في الأجواء العراقية والسورية. لا شك في ان الهجوم الايراني في الاقليم اصطدم بمقاومات محلية وإقليمية وتحفظات دولية. لكن لم تؤد هذه الاعتراضات الى قيام برنامج متكامل مضاد يتسم بالعدوانية والمرونة وحسن اختيار الامكنة والتوقيت. أرفقت ايران ذلك بقرار واضح بعدم الدخول في مواجهة عسكرية مباشرة مع الآلة العسكرية الاميركية وعدم قصف اسرائيل بالصواريخ الايرانية المباشرة والاكتفاء بتحريك الصواريخ الحليفة وفقاً للبرنامج الكبير. بسلاح الصبر والمناورة والمجازفات المحسوبة والتضليل والافادة من الثغرات لدى الآخرين، شغلت ايران دول المنطقة والعالم بملفها النووي فيما كانت تتابع برنامج الدور الاقليمي. ادارت طهران ببراعة ما يسمّيه الغرب التجاذب بين المعتدلين والمتشددين في ايران. وظفت ابتسامة خاتمي وقبضة احمدي نجاد و «اعتدال» روحاني قبل دخول السباق الحالي في فيينا. كما وظفت أخطاء جورج بوش وتردد اوباما وشراهة بوتين. على مدى عقود، استجمعت ايران عدداً غير قليل من الاوراق لتعزيز موقعها التفاوضي. نظرت الى الاقليم في صورة شاملة. واعتبرت ان اميركا هي الخصم والمنافس والشريك المحتمل. وجد العالم صعوبة في تقبل ايران الفائزة بجائزتين هما القنبلة والدور الكبير. خطران يحدقان بـ «ايران الكبرى» اذا قامت واعترف بها. الاول ان تفوق تكاليف الدور قدرة الاقتصاد الايراني. انهار الاتحاد السوفياتي تحت وطأة التزاماته ولم ينقذه انه كان ينام على وسادة نووية. الثاني ان يكون النظام الايراني عاجزاً عن الانتقال الى مرحلة الدولة الطبيعية بعد ادمانه الطويل قاموس المواجهة والتوتر وخطوط التماس. لا بد من الانتظار لمعرفة مواصفات اللحن الايراني في الفترة المقبلة.