توقّفَ مراقبون عند حدثين بالغَي الأهمّية لم يَحظيا بالاهتمام الإعلامي المناسب، الأوّل، زيارة الرئيس التركي رجب طيّب أردوغان للجزائر، والثاني زيارة رئيس وزرائه أحمد داود أوغلو للعراق.
لمهم في هاتين الزيارتين ليس فقط في تزامنِهما، وليس أيضاً في التصريحات الودّية التي أطلقَها هذان المسؤولان التركيّان تجاه بلدين لم يُعرف عنهما الودّ تجاه السياسة التركية في السنوات الأخيرة الماضية.فالمسؤولون العراقيون طالما اتّهموا المسؤولين الأتراك بالعمل على زعزعة الاستقرار في العراق وعلى احتضان المعارضين وتشجيعهم على اعتماد الخطاب الطائفي، إلى درجة أنّ بعض المسؤولين في بغداد اتّهموا تركيا صراحةً بدعم «داعش» وتزويدِها العتاد الضروري لكي تستولي على المناطق التي استولت عليها بسهولة، بل ولتدفعَها الى تهديد الكيان الكردي في الشمال العراقي والذي طالما اعتبرَه الاتراك نواة مشروع دولة كردية ستنتزع مناطقَ شاسعة من الجمهورية التركية نفسها.
أمّا الجزائر فلم تكن أيضاً على علاقة ودّية بالحكومة التركية التي لا تخفي دعمَها للحركات الإسلامية في المغرب العربي، بما فيها حزب الغالبية النيابية في المملكة المغربية والذي اختار لنفسه إسماً مماثلاً لحزب «العدالة والتنمية» الحاكم في تركيا، وهو حزبٌ يتولّى رئيسُه عبد الإله بنكيران رئاسة الحكومة المغربية حالياً.
والحذر الجزائري من السياسة التركية ناشئٌ أيضاً من التورّط التركي في دعم مجموعات مسلّحة في ليبيا تُشكّل خطراً على الأمن الجزائري والتونسي معاً. كما أنّ الخلاف بين البلدين كان واضحاً في الموقف من الأزمة السورية، حيث بقيَت الجزائر متحفّظةً عن سياسات الجامعة العربية تجاه سوريا، والتي كانت تقودها حكومة قطر المعروفة بعلاقتها الوثيقة بتركيا.
ويتساءَل المراقبون هنا: ما الذي دفعَ أنقرة إلى هذه الخطوات المفاجئة تجاه بلدين أقلُّ ما يُقال في علاقتهما بها أنّها كانت مشوبةً بالحذر الشديد وبفقدان الودّ أيضاً؟
يعزو هؤلاء المراقبون هذا التطوّر المفاجئ في السياسة التركية إلى عوامل عدّة:
ـ العامل الأوّل، هو إحساس القيادة التركية بأنّ دوَل مجلس التعاون الخليجي بقيادة المملكة العربية السعودية، قد نجحَت في استعادة قطر إلى بيت الطاعة الخليجي، بكلّ ما يعنيه ذلك من التراجع عن سياسات لم تكن تُرضي شقيقاتها في المجلس.
فعودة الدوحة إلى الفلك الخليجي قد جعلت من أنقرة معزولةً عن أيّ حليف عربي، بالإضافة إلى الخسائر التي تكبَّدَتها من جرّاء سقوط حُكم «الإخوان المسلمين» في مصر، وتراجُع حركة «النهضة» في تونس، والضربة التي تلقّاها «التجمّع اليمني للإصلاح» الموالي لـ«الإخوان» على يد حركة «أنصار الله» في اليمن.
ـ العامل الثاني، هو شعور تركيا بأنّ علاقاتها مع جيرانها الإقليميين ليست على ما يُرام، خصوصاً مع إيران وروسيا وأرمينيا واليونان وقبرص. ويعود سبب ذلك في جانب كبير منه إلى موقفها من الأزمة السورية ومحاولتِها توسيعَ نفوذِها في الإقليم كلّه، بما يجعلها دولةً عظمى تحاول استعادة وهجِ الامبراطورية العثمانية وسيطرتها على كلّ الدوَل التي كانت تحت حكمِها في غابر الزمان.
ـ العامل الثالث، هو اهتزاز العلاقة بين أنقرة وواشنطن، خصوصاً في ظلّ التردّد التركي عن الانضمام إلى التحالف الدولي لمكافحة الإرهاب الذي تقوده الولايات المتّحدة الأميركية، لا بل شعور مسؤولين أميركيين بأنّ لتركيا دوراً كبيراً في تسليح الجماعات الإرهابية وتمويلها وتوسيع الممرّات الآمنة لمقاتليها، وهو ما صرّحَ به علناً نائب الرئيس الاميركي جو بايدن قبل أسابيع، والذي اعتُبرَ اعتذارُه الديبلوماسي عنه فيما بعد نوعاً من تأكيد الاتّهام أكثر منه نفياً لكلامٍ قاله بايدن أمام طلّاب جامعة هارفرد الرفيعة المستوى في الولايات المتحدة الأميركية.
ـ العامل الرابع، هو إحساسٌ تركيّ متزايد بضرورة إجراء مراجعة لا تنفع معها العنجهية والإحساس المبالغ فيه بالقوّة الذي وقعت السياسة التركية في شروره منذ بداية ما يسمّى «الربيع العربي» الذي ظنّ أردوغان أنّه قادرٌ على قيادته.
ومن هنا يَعتقد المراقبون أنّ زيارة أردوغان للجزائر وأوغلو لبغداد هي نِصفُ تحوّلٍ في السياسة الخارجية التركية، كما أنّها مؤشّر لبداية مراجعة لسياسات تركيا الخارجية في الآونة الأخيرة.
طبعاً الأتراك أبدوا تضامنَهم مع العراق في مكافحته للإرهاب، ولكن هل يكفي أن تقفَ أنقرة ضدّ «داعش» في العراق وتدعمها في سوريا؟ وهل يمكن الحديث عن «داعش» ضعيفة في العراق وقوية في سوريا من دون أن يعني ذلك تمَدُّدَ هذا التنظيم من بلد إلى آخر في استراتيجية «الأواني المستطرقة» التي يُجيد «داعش» استخدامَها؟
أمّا الجزائر التي عانت طويلاً من شرور الجماعات المسلّحة في «العُشرية السوداء» كما يسمّيها الجزائريون، فلها بلا شكّ كلامٌ صريح مع أردوغان حول دعمِه لمَن يريد أن يُدخِلَ سوريا والعراق في «عُشرية سوداء» مماثلة، لا بل إنّ الجزائريّين مؤهّلون، بحُكم علاقاتهم بمصر وسوريا، أن يشكّلوا جسراً لتنقية العلاقات بين أنقرة من جهة وبين القاهرة ودمشق من جهة أخرى، بما يحفظ ماء وجه أردوغان ولا يُخرجه مهزوماً هزيمةً كاملة.
هنا يربط المراقبون بين احتمالات تَعتبِر هاتين الزيارتين لبغداد والجزائر مؤشّراً لمراجعة تركيّةٍ وبين احتمالات التوصّل إلى اتّفاقات إيرانية ـ غربية حول الملف النووي، كذلك يربطون أيضاً بين هذه المراجعة التركية المحتمَلة وبين الكلام الحاسم الذي أعلنَه رئيس أركان الجيوش الأميركية الجنرال مارتن ديمبسي من أنّ مهمّتَه هي هزيمة «داعش» وليس إسقاط نظام الرئيس بشّار الأسد.
بعض هؤلاء المراقبين يُذكّرون بدور لعبَته الجزائر في ربيع 1975، حين نجحَ الرئيس الراحل هواري بومدين في إقناع بغداد وطهران بعَقدِ اتّفاق «شطّ العرب» الشهير، والذي تمّ بموجبه رفعُ الغطاء الإيراني عن الثورة المسلّحة في شمال العراق، فاضطرّ قائدُها آنذاك الزعيم الكردي الراحل مصطفى البرزاني إلى مغادرة العراق واللجوء إلى الولايات المتحدة الاميركية، ليعودَ العراق مسيطراً على كلّ أراضيه.
فهل تنجح الجزائر في وساطة مماثلة بين دمشق وأنقرة، وهي وساطةٌ محَبّذة من القاهرة وطهران وموسكو وبكين، ولا تلقى اعتراضاً قويّاً لدى الإدارة الأميركية التي تعيش مع الإدارات الأوروبّية هاجسَ انتقال الإرهاب إلى بلادها؟