ليس مستغرباً غضب البطريرك الماروني مار بشارة بطرس الراعي. فالإنطباع في بكركي هو أنّها تتعرّض لمزيج من الخديعة والتجاهل. وفي واحد من المواقف الأكثر وضوحاً، أعلن البطريرك رفضه الفراغ الذي يقود إلى المثالثة. ومع أنّ المقصود هنا هو النائب ميشال عون و"حزب الله"، فالبطريرك يُحاذر أن تدخل الكنيسة في التسمية، لئلّا تصبح جزءاً من الإشتباك السياسي المباشر.
لكنّ المشكلة بالنسبة إلى البطريرك لا تقتصر على النصاب، بل تتخطّاه إلى القرار السياسي بالفراغ. والوعود التي تلقّاها البطريرك، على مدى أشهر، كلّها مخدّرات لتبرير الفراغ. أما المراهنة على اللقاء الأخير في روما، مع الرئيس سعد الحريري، فباءت بالفشل.
يقول بعض المتابعين إنّ اللقاء خرج بتفاهم على تسوية متكاملة: التمديد للمجلس النيابي تقنياً، أيْ لفترة لا تتجاوز الستة أشهر، مع ضمان إنتخاب رئيس للجمهورية. وخلال اللقاء، رغِبَ الحريري بالإستئناس برأي البطريرك في الأسماء التي تحظَى بثقة بكركي. لكنّ الراعي إكتفى بالمواصفات، ورفض الوقوع في مأزق التسميات الذي وُضِع فيه سلفه مراراً، وكانت نهاياته مخيِّبة.
لكنّ المشاورات في روما إنتهت إلى تصوُّر رأى البعض أنه ينطبق على مرشّحين عدة للرئاسة، أربعة منهم في الطليعة. وهؤلاء يُعتبرون توافقيّين في نظر كلّ الأطراف، وبينهم مرشّح أو إثنان لا يمكن لفريق "8 آذار" أن يرفضهما.
وكان منتظراً أن يبلور الحريري التوافق على أحد الأسماء، لما له من رصيد عربي ودولي، وبالتفاوض مع «8 آذار» والقوى الإقليمية الداعمة لها. فإذا تمَّ تبني المرشح التوافقي، ينسحب المرشحان المحسوبان على «8 و14 آذار»، العماد عون والدكتور سمير جعجع، وينزل الجميع إلى المجلس لإنتخابه، ثم تجرى الإنتخابات النيابية.
عاد البطريرك من روما متفائلاً بالتسوية. لكنه فوجئ بثلاثة عوامل بدَّلت الصورة:
1- أصرَّ وزير الداخلية نهاد المشنوق، بعد زيارة الرئيس نبيه برّي، على أنّ الأسباب الأمنية هي التي تمنع إجراء الإنتخابات النيابية. وهذا يعني أن لا إنتخابات لفترة طويلة جداً، وليس لأشهر فقط، كما أوحَت تسوية روما. فمستقبل الأمن، وحتى إشعار آخر، ليس أفضل من حاضره.
2- تعمَّد تيار "المستقبل" و"حزب الله"، بعد لقاء روما، تأكيد التمسّك بمرشحيهما. فزيارة جعجع للسعودية أكّدت أنه المرشح الوحيد لفريق "14 آذار". أما عون فقد تبلَّغ علناً من السيد حسن نصرالله تطميناً مماثلاً. وهذا التمسُّك المتبادل يبرِّر لعبة التعطيل.
3-جرى التمديد للمجلس النيابي لعامين وسبعة أشهر، لا لستة أشهر، مع وعدٍ غامض بإمكان إنتخاب رئيس جديد وتحضير قانون إنتخاب عاجل وإجراء إنتخابات نيابية. ولا ترى بكركي أنّ هناك أفقاً لهذه الوعود، في معزل عن صدقية البعض ومناورات البعض الآخر.
لذلك، شنَّ البطريرك حملة عنيفة ومتعدِّدة الإتجاهات، داخل البيت المسيحي وخارجه. وقد فوجئ بها أركان "المستقبل" و"14 آذار"، معتبرين أنهم يقومون بكل ما عليهم لتأمين إنتخاب رئيس جديد، لكنّ المأزق بقيَ في إصرار عون على الـ»أنا أو لا أحد». ولا ينكر البطريرك ضمناً هذا الوجه من الأزمة، لكنه يعتقد بأنّ القوى الإقليمية المتصارعة تفرض التسويات والتوافقات في لبنان عندما ترى ذلك مناسباً لها.
وعندما تكون مصلحة القوى المذهبية الداخلية هي المطلوب تأمينها، يجري تجاوز الإعتراضات المسيحية في سهولة، كما في التمديد للمجلس وتأليف الحكومة.
ولدى البطريرك إنطباع بوجود تواطؤ ضمني، بين قوى داخلية وخارجية معنية بالوضع اللبناني، لإعتماد تسويات تؤمّن المصالح المتبادلة، ولو على حساب الحقوق المسيحية. ولذلك، قرّر الإنتفاض والمواجهة.
اليوم، هناك إنطباع بأنّ بعض القوى يتعمّد تعميم أجواء من التفاؤل بإحتمال التوافق على رئيس للجمهورية، وهذه الأجواء لا أسس واقعية لها. والأرجح أنها من مستلزمات اللعبة لتمرير التمديد والفراغ في الحدّ الأدنى من "الضجيج" المسيحي.
ولم يبقَ لبكركي سوى "الأم الحنون" الباقية، أي الفاتيكان. والبطريرك يتوجّه إليه نهاية الأسبوع، حاملاً غضبه إلى البابا فرنسيس، ومطالباً بإستخدام رصيده في العالم للحفاظ على ما تبقّى من موقعٍ ودورٍ للمسيحيين اللبنانيين، فيما مسيحيّو الشرق جميعهم مهدّدون.
ويستعجل البطريرك إنتخاب الرئيس الجديد قريباً، أيْ قبل نهاية 2014. وهو يدرك أنّ الأوراق التي يستخدمها للضغط معنوية لا أكثر، لكن عليه المحاولة... فلا خسارة من أن يحاول المرء... عندما لا يعود مالكاً لكثير من الأشياء التي يخاف عليها.