الدرس السياسي الأول من سقوط جدار برلين قبل ربع قرن، وهي الذكرى التي احتفل العالم بها أمس الأول الأحد، أنه لا شيء مَهْما بلغ جبروتُهُ يعصى على التغيير والسقوط. من لم يرَ أية "أبدية" كان يجسِّدها جدار برلين حين يعبر زائر برلين الغربية أمامه في إحدى نقاط وَسَطِها لن يصله الدرس كما وصل لملايين المعنيّين في المجال السياسي الذين شاهدوه في أيام "الحرب الباردة" ولا سيما الذين أتوا من عالمنا الثالث المسلم والعربي.
زرتُ برلين بعد أشهر من سقوط الجدار ووقفتُ مع مجموعة مراهقين ومراهقات أميركيين وجدتهم صدفة يكسِّرون في إسمنت الجدار وقبلوا أن يعيروني أحد فؤوسهم الصغيرة لمشاركتهم في التكسير بغاية الاحتفاظ بقطعٍ صغيرةٍ منه لا تزال موجودة في أدراج مكتبتي وتلافيتُ معهم رقابة الشرطة البرلينية التي كانت بدأت الحد من المساس بالجدار لحماية ما تبقّى منه كمعالم أثرية صامدة على مساره السابق الضخم والطويل الذي أقامه الروس بين جزءي المدينة المحتلّيْن من السوفيات شرقاً ومن الجيوش الغربية غربا.
ربما يحتاج أمثالي هذه الأيام من المتشائمين بل اليائسين من مستقبل بلداننا العربية استذكارَ هذا الدرس البرليني الذي غيّر العالم لاستعادة بعض التفاؤل أو الأمل أو على الأقل الحلم بإمكان وقف مسار انحطاط بل انهيار، وهو في الحقيقة انحطاط انهياري! بلداننا ومجتمعاتنا التي تهاجر نخبُها وثرواتُها قسراً وإراديا هجرة البقاء على قيد الحياة إلى بلدان الغرب.
لا شيء مهما كان جبروته يعصى على السقوط أينما كان. لكن هذه الحتمية ليست كافية لبلداننا العربية والمسلمة ولا سيما في المشرق. فقد كان من المفترَض أن تحمل لنا موجات "الربيع العربي" ثقةً كبيرة بإمكان التقدم لأنها أسقطت أنظمةً استبدادية عاتية. لكن ظهر خلال سنوات قليلة أن المسألة في ما يتعلّق بنا لا تكمن هنا، أي في سقوط "الأبدي"، وإنما في أن يكون التغيير نحو الأمام. ما حصل في برلين نقل الشعب الألماني ومعه شعوب أوروبا الوسطى إلى مرحلة متقدِّمة من التطوّر والديموقراطيّة والازدهار الاقتصادي.
جداراتنا التي سقطت في "الربيع العربي"، وهذا عظيم، جاءت لنا بالخراب في معظم الحالات: انهارت سوريا والعراق وليبيا واليمن وتكافح الدولة ومعظم المجتمع المصريّان للاحتفاظ بالتماسك السيادي والوطني ضد الإرهاب والحرب الأهلية ويلهث بلدٌ مثل لبنان بمساعدة غربية وتقاطع مصالح إقليميّة للإبقاء على توازن يومي أمني سياسي طائفي اقتصادي قلقٍ جدا وتجهد دول الخليج لإبعاد مخاطر وجودية عن حدودها ومجتمعاتها.
إذن لسنا جزءاً من الدرس البرليني حتى لو اعتُبِرتْ موجات "الربيع العربي" شبيهةً بمتغيّرات ما بعد سقوط جدار برلين. إنه تشابهٌ في الشكل لأننا لم نتقدّم بل تراجعنا وبصورة مخزية إذا استثنينا الاستثناء التونسي الذي يحتاج بوضوح إلى إقران إنجازات ديموقراطيّته السياسية بنجاح اقتصادي من دونه لا يكون الاستقرار السياسي مستديما.
أحتفظ في الواقع بنوعين من الشظايا الصغيرة في منزلي: النوع الأول هي القطع الإسمنتية الصغيرة من الجدار البرليني التي ذكرتها في مطلع المقال والنوع الثاني حديدي وهو عبارة عن شظيّتين من إحدى القنابل التي أصابت مكتبي في الطابق الرابع من مبنى جريدة "السفير" عام 1989 ووجدتها وسط تناثر حطام زجاج النافذة خلف مقعدي، الشظية الأولى على سطح المكتب الخشبي والشظية الثانية على مقعد كرسي جلوسي الجلدية... وجدتهما فور عودتي من الملجأ تحت الأرض لتفقّد الأضرار مثلما كان جميع الزملاء يفعلون عندما يهدأ القصف في الحرب الأهلية. كان موقعا الشظيّتين لا يتركان مجالاً للشك أني لو كنتُ جالساً في المكتب لأصابتني الاثنتان أو على الأقل واحدة منهما في الرأس فورا. كانت بالنسبة لي أخطر مرة ملموسة أواجه فيها احتمال الموت خلال كل الحرب بين 1975 و1990 بل بين 1969 و1990.
لماذا تتحول شظايا حديدية مسنَّنَة من حربنا الأهلية بعد حوالي 25 عاما على انتهائها إلى ذكرى شخصية لديّ لتقهقر لبناني متواصل نحو الخلف بينما شظايا برلين في الدرج نفسه هي في ذاكرتي علامة تقدّم باهر في ألمانيا وأوروبا بل العالم؟
ليست الصورة كلها كاملة التناقض. فبين نظامي الحياة السياسية في لبنان وألمانيا التباين صارخ مع أنه كان لبيروت وبرلين مجالات مقارنة مشتركة. فكلتا المدينتين بدأت في الفترة نفسها تقريبا مشاريع إعادة التوحيد السياسي وإعادة الإعمار ولم يكن النقاش العمراني الثقافي الاقتصادي الذي دار في بيروت في أوائل التسعينات بأقل غنىً وأهمية من النقاش الذي دار حول توحيد وإعادة إعمار برلين. الفارق أن النقاش البرليني أسرع إنتاجيّةً وربما أكثر ديموقراطيةً رغم كل الانقسام الحيوي والغني الذي تعرّض له مشروع إعادة إعمار بيروت. وقد قام الفنانان الألمانيان ستيفاني بوركل وتوماس ساكشاويسكي بعرض في بيروت وبرلين للوحات فوتوغرافية وتشكيلية حول المدينتين "بعد الانفصال".
أمام الجدار وبقاياه يستطيع المرء أن يقول أن التضحيات التي أظهرها جيل كامل من الألمان، شباباً ومثقفين، أثمرت عن واقع أفضل لا شك فيه. بينما نحن اللبنانيين من يستطيع فينا أن يقول أن تضحيات شعب بكامله لن تذهب سدى إذا حصل انهيار سياسي وأمني؟ مثلما تسأل الشعوب السوري والليبي والعراقي أنفسَها حاليا هل ما نحصل عليه كان يستحق كل هذه الأهوال؟
زرت برلين مرارا بين 1990
و2010 وأتيح لي أن أشهد تطوّرَ وتغيّرَ المدينة الى الأفضل حتى لو كان بعض البناء التجاري الحديث شديد الضخامة والحداثة في منطقة الوسط بما لا يلائم عراقة المدينة (وهو نقد وجّهه مهندسون ومثقفون ألمان). لكن المهم هنا هو كيف يحافظ نمو المدينة الموحّدة على تاريخها وعراقة أحيائها سيما في الجزء الشرقي. وقد نشأ أدب كامل حول صلة الرأسمال بالنظام السياسي وحضرتُ مرةً عام 1997 في أحد مسارح منطقة Mitte مسرحية تتبادل فيها توابيتُ بيضاءُ الحوارَ السياسي في قصة تدور حول مقتل أحد السياسيين.
قبل بضعة أشهر من سقوط الجدار أصدر الصحافي البريطاني ميكاييل سيمونز كتاباً تحت عنوان: "برلين المدينة المنزوعة الملكية" (Berlin the Dispossessed City-منشورات Hamish Hamilton. London). يسأل الكاتب: من هو البرليني؟ ويصل إلى خلاصة هي أنه لا برلينيّون أصليّون في برلين بل إن هذه المدينة لا تكف عن استقبال موجات ألمانية، أفراداً وجماعاتٍ، من خارجها تصبح جزءاً من نسيجها.
من هو "الربيعيّ" اليوم في العالم العربي؟ حتى لا أسأل عن هوية كل عاصمة عربية على حدة؟ أي حتى لا أسأل من هو الدمشقي ومن هو البيروتي ومن هو البغدادي ومن هو القاهري اليوم؟
إذا جاز استخدام خطاب الرئيس جون كينيدي في برلين وأمام الجدار في 26 حزيران 1963 وجملته الذائعة الصيت التي قالها باللغة الألمانية وأصبحت عالمية يرددها من لا يعرف الألمانية مثلي: أنا برليني (Ich bin ein berliner) أمكن القول: لسنا برلينيّين في هذه المنطقة.
سقط جدار برلين مرة وإلى الأبد. نحن عندنا في العالم العربي يسقط جدارٌ للاستبداد فتنشأ مكانه عشرات الجدران، هذا دون اللعنة الجديدة التي أصابت المنطقة عبر جدار الفصل الإسرائيلي في الضفة الغربية وهو جدار برلين حرفي لا رمزي مع أن الصحافيّين البريطانيين والأميركيين يجنحون إلى تسميته سياجاً أو حاجزاً fence وليس حائطاً أو جداراً wall كي لا يُذكِّر بحائط أو جدار برلين.
لا يزال العالم يعجّ بالجدران الفاصلة أو العازلة... بين أميركا والمكسيك جدارٌ من ألف كيلومتر. لكنْ، كما ثبت، الجدران الأهم هي التي تفصل الشعوب عن نفسها... عن تقدِّمها.