المسيحيّون بلا رئيس للجمهورية، ببطريركٍ يتمّ تجاوزه في كلّ استحقاق، وزعماء يتصارَعون. وهكذا، يضيعون اليوم بين اللامرجعية والمرجعيات المستضعَفة والمتصارعة. فهل مِن داعٍ إلى السؤال: لماذا يخسر المسيحيون؟
وَجَد السُنّة والشيعة مجالاً للهدنة مرّة أخرى في لبنان، وسط النزاع الدائر من المتوسط إلى طهران: مدَّدوا للمجلس بعدما أقاموا حكومةً توافقية. واستحقّت التسوية تجميداً ظرفيّاً لأعراس الدم من طرابلس إلى عرسال، وتبريداً لملف العسكريين المخطوفين.في المقابل، وفيما المخاطر تعصف بمسيحيّي المشرق، غرقَ مسيحيّو لبنان في المعارك «الدونكيشوتية»: هذا مع التمديد وذاك ضدّه. ونموذج القتال المجاني يتكرَّر عند كلّ موعد فاشل لانتخاب رئيس للجمهورية. وحسناً أن لا سلاح في أيديهم حاليّاً. فالسوابق لا تُطَمْئن.
فأيّ شيطانٍ يحوِّل الأزمات اللبنانية العامة أزماتٍ إنتر- مسيحية حصراً؟ وكيف يكون المسيحيّون أساساً ضحايا الفراغ وتعطيل الانتخابات والاعتداء على الحقوق، وفجأةً يصبحون جلاّدي أنفسِهم بأنفسهم، كما يحصل عند كلّ استحقاق؟
اليوم تندلع حرب أهلية مسيحية، في السياسة والمنابر والصالونات ومواقع التواصل، وهي زاخرة بالتخوين ومحاولات التصفية السياسية. والغارقون في الحرب ينسَوْن أو يتناسَوْن أنّهم جميعاً في مركب واحدٍ يؤول إلى الغرق، وأنّهم يتجادلون في المصالح الصغيرة وجنس الملائكة، فيما الموج يتدفَّق سريعاً في المركب!
وهكذا، يشعر كثير من المسيحيين بالقرَف. ويحقّ للبطريرك الماروني أن «يهزّ العصا»... ولكن يجب أن يحصل ذلك قبل فوات الأوان لا بعدَه، وأن يستعيدَ البطريرك هيبته على الرعيّة أوّلاً، لأنّ بكركي لم تفقد هيبتها في نظر الآخرين، إلّا بعدما نفّذَ مناصرو عون اعتداءَهم على سيِّدها في العام 1989.
ربعُ قرن مضى، والمسيحيّون يرزحون تحت ثنائية عون- جعجع التي تقسِّمهم عمودياً. ولا أفقَ لتبدُّلٍ في المعادلة. وسبقَ للمسيحيين منذ الاستقلال أن عاشوا الثنائيات والثلاثيات، لكنّ قوّتهم كانت كفيلة بتغطية أيّ انقسام. أمّا اليوم، فانقسامهم في حال الضعف أو الاستضعاف يُنذر بالإضمحلال.
والمثير هو أنّ الفترة التي ارتاح فيها المسيحيون من الثنائية - وقد تحوّلت دمَوية مدمِّرة- كانت تحت الوصاية السورية التي أبعدَت الرجلين. وبدا المسيحيون أكثر انسجاماً في ظلّ الاضطهاد. وعند زواله، عام 2005، عاد الصراع!
وتستفيد القوى المذهبية في «8 و14 آذار» من خلافات المسيحيين لتحافظ على مكاسب حقَّقتها على حسابهم، بحيث يسهل تقاسم جبنة السلطة في ما بينها، وإبقاؤهم شركاءَ صُوَريين لا فعليين. ويقضم كلٌّ من المتنازعين السُنّة والشيعة الحصّة المسيحية ليستقوي بها على خصمه. وفي التسويات المذهبية، كما في التمديد، يتفاهمون على تقاسم الحصة المسيحية، كما في الحقبة السورية.
فـ«حزب الله» يحافظ على دعم عون ظاهرياً ليكسب ولاءَه. ولكن، في اللحظات الحاسمة، ينساه على قارعة الطريق، كما في القانون «الأرثوذكسي» والانتخابات الرئاسية والتمديدين الأوّل والثاني وسوى ذلك. وفي المقلب الآخر، بدا «المستقبل» مهتمّاً بالحصول على دعم «القوات اللبنانية» للتمديد، خياره المفضَّل في هذه الظروف.
ومرحلة التنافر المسيحي الحاليّة شبيهة بالسنوات الأولى من الحرب الأهلية، والتي انتهَت بإنشاء «الجبهة اللبنانية» كمرجعية سياسية، ثمّ بتنفيذ الرئيس بشير الجميّل «عملية الصفرا»، أي «توحيد البندقية»، على مرارتها.
وليست للمسيحيين اليوم حاجة إلى توحيد البندقية، إذ لا بندقية بقيَت في أيديهم. لكنّهم يحتاجون إلى استعادة شكلٍ من أشكال «الجبهة اللبنانية» كمرجعية للقرار في «المسائل المسيحية العليا»، بغطاءِ البطريرك ورئيس الجمهورية. وهذه المرجعية لا تعني تصحيرَ الحياة السياسية ومَحْوَ التنوُّع، بل إزالة الصراعات المصلحية الصغيرة أمام المصلحة العليا. ومن دون ذلك، سيمضي المسيحيون إلى الهاوية.
وفي معزل عن السؤال الذي لن يتفق المسيحيون على الإجابة عنه، أين الصواب: هل هو في منطق عون أم في موقف جعجع؟ فالخطر على مسيحيّي لبنان والمشرق أكبرُ بكثير من الجواب. ولا بدّ من رضوخ الجميع لمنطق التوافق الإجباري. وهذا ما تفعله الشعوب الحيَّة في حالات النكبات الكبرى.
ولن يكون مسيحيّو لبنان أفضلَ حالاً من مسيحيّي العراق وسوريا إذا استمرّوا في نزاعاتهم بلا أفق. والنجاة ما زالت ممكنة... شرط حصولها قبل أن يغرق المركب!