لم تكن عبارة اليسار الدولي كلها افتئاتا على الشيوعيين، كثيرون منهم ما زالوا يبحثون عن حل أزمة الوطن من خارج حدوده، ويتبارون في التحليل الذي يضع الأزمة اللبنانية داخل شبكة معقدة من الأزمات العربية والاقليمية والدولية المحيطة، وهذا صحيح من دون شك. غير أن اليسار نجح بتعميمه منذ أن طالب حلفاءه خارج الحدود بعزل حزب الكتائب اللبناني، فيما يفتقر تحليل حزب الله إلى عناصر القوة في المشروع اليساري ، ولذلك فهو لم ينجح ، مع سائر الأصوليات الدينية، في تعميمه طيلة الفترة الممتدة من شعار الاسلام هو الحل عند بداية القرن الماضي إلى شعار دولة ولاية الفقيه عند نهايته.
تجربتان مختلفتان في أمور و متشابهتان في أخرى كالعداء للغرب والاستعمار والولايات المتحدة الأميركية التي سماها اليسار الامبريالية وسماها حزب الله الشيطان الأكبر؛ بيد أن أخطر نقاط التشابه هي البحث عن تعميق الخلافات والخصومات مع قوى داخلية لحساب تعزيز علاقات الصداقة مع قوى خارجية. وهذه هي أقصر الطرق لتهديم الوحدة الوطنية وزج البلاد في الحروب الأهلية. اليسار واليمين اللبناني كانا شريكين في هذه اللعبة المدمرة ، مثلما هي الحال اليوم بين حزب الله وخصومه اللبنانيين.
دعائم مثل هذين الموقف والتحليل أكثر متانة لدى اليسار منها لدى حزب الله ، فالأممية المزعومة في الحلم اليساري تبدو مشروعة ومعقولة من الناحية النظرية، لكنها لدى حزب الله لا تتسع لديانة واحدة ولا حتى لمذهب واحد داخل هذه الديانة، ولذلك يصبح من باب أولى أن يقلص حزب الله طموحاته القومية والاقليمية إلى حدها الأدنى ويضاعف من حرصه على بناء الوحدة الداخلية، مستفيدا من نصائح الشيخ محمد مهدي شمس الدين ، ومن تجربة اليسار الذي شكل بحثه عن حلفاء من خارج الحدود تهمة له في البداية فنعت باليسار الدولي ، ثم مقتلا له، حين تبدلت ظروف الخارج فحولته إلى قوة معزولة من غير حلفاء لا في الخارج ولا في الداخل.
من المحتمل أن يستجيب تيار المستقبل لرغبة حزب الله في ترطيب الاجواء بين الطرفين، وله سوابق في استجابات مماثلة ، يوم برأ النظام السوري من اغتيال الحريري ، أو يوم زيارة دمشق تلبية لرغبة سعودية ، أو يوم تواطأ مع القوى السياسية على التمديد للمجلس النيابي ( بما فيها القوى المعترضة على التمديد) أو على عدم إقرار قانون للانتخابات يخرج البلاد من دوامة الأزمة الممتدة منذ اندلاع الحرب الأهلية عام 1975، أو على الاتفاق الرباعي عام 2005، أو على تشكيل حكومات يعلن المتخاصمون فيها قبولهم بالتعايش بطريقة المساكنة ويضمرون العداء ويتوافقون على المحاصصة ، الخ ، الخ .
غير أن أمرين يجعلان هذا المحتمل أقرب إلى الاستحالة . الأول هو أن سلوك حزب الله مع حلفائه كما مع خصومه لم يبدد شكوكهم بصدق مرامي الحزب ومشاريعه “الأممية والقومية” ، ولا عزز لديهم الثقة بخطاب سياسي نشأ متلبسا بالتقية منذ ما بعد مقتل الحسين في كربلاء، ثم جاء حزب الله ليثبت التهمة عليه ويعيد تثبيتها في كل مرة يكون فيها مطالبا بوقف حالة التنازع بين انتمائه اللبناني وانتمائه الديني الذي يتوسل الإيمان بالمهدي المنتظر ليجعله ذا طابع ” أممي “. إذ لم يعد يخفى على أحد أن السلاح الذي نذره الحزب لتحرير التراب اللبناني ووفى فيه بوعده ، تحول إلى سلاح لتحرير القدس ثم لتحرير ما تبقى من مزارع شبعا وتلال كفرشوبا ثم لحماية المياه الجوفية اللبنانية، ثم لحماية لبنان من الاعتداءات الاسرائيلية، ثم السلاح لحماية السلاح، ثم لحماية آبار النفط والغاز في المياه الاقليمية، ثم للدفاع عن القرى الشيعية الموجودة داخل الحدود السورية ، ثم لحماية المقدسات الشيعية داخل الأراضي السورية، ثم لمحاربة التكفيريين والدفاع عن النظام البعثي ، ومن يدري إلى أين يمكن أن تصل السردية الحزباللهية هذه ، خصوصا بعد الإشارة إلى خطر الإلحاد الداهم في ” بعض الأقطار العربية “.
الأمر الثاني هو أن جملة من العوامل ، بصرف النظر عن صحتها أو عدم صحتها، زرعت في الوعي الشعبي المعادي لحزب الله اعتقادا راسخا كرسوخ المعتقدات الشيعية الكربلائية في الوعي الشيعي بأن مظلومية الحريري لدى السنة في لبنان تشبه مظلومية الحسين لدى الشيعة الاثني عشرية، مع فارق جوهري تصنف بموجبه السيرة الحسينية كحادثة تاريخية مات جميع أبطالها أو كأسطورة لتمجيد البطولة والتضحية ، فيما تبقى حادثة اغتيال الحريري حية وأبطالها موجودون على مسرح الصراع الدائر في المنطقة، والمتهمون بارتكابها جزء من معسكر الممانعة.
اليسار اللبناني مضى بعيدا في مشروعه الخارجي فشارك إلى جانب القذافي في المعارك على حدود تشاد. وعاد من رحلته النضالية الخارجية ليجد نفسه مهزوما في الداخل اللبناني، وليكتشف ، بعد فوات الأوان أن حصانة الحزب هي شعبه الذي ينتمي إليه ويناضل من أجله. إننا ننصح حزب الله أن يقرأ التجربة اليسارية ويستفيد من دروسها لا أن يستخف بها.