مع توسع الإنتشار الداعشي كسرطان جاهلي متوحش يدمر الحضارة والثقافة، يكثر الحديث عن سيناريوات التقسيم الطائفي أو العرقي في دول سايكس – بيكو.
وقفة تأمل في جغرافيا المنطقة (الأرض والسكان) وأحداثها المتبلورة في السنوات الثلاثين الأخيرة تشير في إتجاه تقسيمي مختلف: إزالة تقسيمات سايكس بيكو واستبدالها بمكونات طائفية واسعة جغرافياً مع تغييرات سكانية هائلة. المكوِّنات المطروحة هي: يهودية، وسُنيّة، وشيعية. النظرية الإستراتيجية وراء هذا السيناريو هو التأسيس لتركيبة طائفية مستقرة تؤمن ديمومة الهدف الأساس: دولة التوراة اليهودية من النيل إلى الفرات. والفتنة السنّية الشيعيّة هدفها المحوري هو إحداث تغييرات سكانية تفرض الإستقطاب الطائفي الواسع ضمن حدود المكونات الطائفية الناشئة. لا مكان في هذا السيناريو لكيانات طائفية صغيرة أو قومية أو علمانية.
ما هي تلك المكونات الطائفية الثلاثة الواسعة الجغرافيا التي يتم العمل على تركيبها بوحشية فائقة بواسطة المذابح والتهجير الجماعي القسري؟
1 – دولة يهودية من النيل حتى الفرات (تحقيقا لنبوءة عودة المسيح – الدفع العقائدي الأساس للمحافظين الجدد في أميركا) قوامها الرئيس اليوم الكيان الصهيوني وتضم أجزاء من سوريا والأردن والعراق (غرب الفرات) والسعودية ومعظم لبنان. سكانيا: يتم تهيئة 15 مليون يهودي من أنحاء العالم للتوطن في المناطق الواقعة ضمن حدود هذه الدولة، ولابأس من بقاء بضعة ملايين من غير اليهود يكونون مزيجاً مقهوراً من “الغوليم” لخدمتهم بتولٍّي المهن الوضيعة (وإلإيهام بالديموقراطية).
ليس بالضرورة أن تتولى إسرائيل بنفسها تركيب أجزاء هذا الهدف التاريخي. معظم أهداف إسرائيل المرحلية منذ نشأتها، تحققت عبر إستراتيجيا واستعداد بائِسَيْن لخصومها من العرب، أو صراعات داخلية في بلاد العرب تزيل العقبات وتمهد السبل أمام إسرائيل.
2 – دولة إسلامية سنية قوامها الرئيس اليوم تركيا وتضم باقي سوريا، والجزء الشمالي من لبنان وجزءا من العراق. سكانيا: محاولة تهجير الأقليات المسيحية والشيعية وغيرها قائم على قدم وساق. في المقابل، الدعوة مفتوحة للبدائل السلفية الوحشية القادمة من كل أصقاع العالم تحت إدعاء الجهاد، ويتم توطينها بتوفير المقام وتكوين العائلة والمدخول المالي.
الأحداث المهمة في هذه الحلقة من صناعة تاريخ المنطقة تشي بالكثير حول دور تركيا المركزي في التأسيس للتغييرات التاريخية المرجوة. عشرات آلاف المقاتلين من أنحاء العالم يدخلون إلى سوريا والعراق عبر تركيا من معابر يسيطر عليها المسلحون بإشراف الاستخبارات التركية وليس “تهريباً”. وإذا ارادت تركيا في المستقبل وضع اليد على المناطق التي “يحررها” هؤلاء، هل سيكون من الصعب إيجاد الحجج والمبررات من نمط “إحتواء الإرهاب” أو إنشاء “مناطق عازلة وآمنة”؟ وللمناسبة، من الجيد أن يتعود مئات الآلاف من المهجرين السُنَّة على السُّلطة التركية، فما الضير في توطينهم على الاراضي السورية والعراقية “المحررة” تحت الحماية الأمنية التركية – الأطلسية، و”الرعاية الإنسانية” الغربية، ثم ضمهم إلى تركيا مع الارض بعد سنوات عديدة في “إستفتاء ديموقراطي” برعاية دولية؟
ما هو سر تركيز “داعش” الرئيس هذه المرحلة جغرافِيّاً في المنطقة بين نهري الفرات ودجلة والعمل على السيطرة على الشمال السوري من خلال القضاء على التنظيمات الأخرى بالتنسيق الواضح مع تركيا؟
إنشاء المكوِّن السنِّي أولاً يسهل تسويقه إعلاميا بالرغم من هول المآسي التي يفتعلها مساره: يتم ُإخَراجه من خلال معارك طاحنة أبطالها إرهابيو العالم “السلفيون” ضد “الإرهابيين” الآخرين المنتمين لـ”التطرف الشيعي”، ويمهِّد الطريق للمكوِّن اليهودي بأقل الخسائر لإسرائيل؛ وأيضا يدفع نحو تفعيل مسار الكيان الشيعي. وهكذا يكون “العالم الحر” قد أمَّن الخلاص من إرهابيي العالم بتوجيه إرهابهم إلى نحور بعضهم البعض.
يقضي هذا السيناريو أن تكون السنوات المقبلة حبلى بالأحداث الجسام التي تدفع المسيحيين وغيرهم من الأقليات إلى الهجرة إلى الغرب. أما لِمَن نجا من القتل من الشيعة والعلويين فإلى جنوب العراق وإيران؛ والسنَّة إلى دولة الخلافة تمهيداً لضمهم لتركيا. هذا الفرز السكاني الطائفي يُعتبر ضرورياً للإستقرار الداخلي للدول الثلاث الناشئة، ومقلِّصاً لدواعي التنازع في ما بينها.
هذه المتغيرات الجذرية في المنطقة تصبح ممكنة بعد التدمير والتغيير الممنهج لوجه المنطقة الحضاري والثقافي والتاريخي، والإرهاق الإجتماعي والإقتصادي للموارد البشرية والمادية، مع ورود ملايين سكانية جديدة من أنحاء العالم ترى في الكيانات الجديدة ملاذاً وتحقيقاً لتطلعاتها ومستقرَّاً للعيش بموجب عقيدتها.
إذا نجح معظم هذا الجزء من السيناريو، عندها قد تنجر إيران إلى تنفيذ الجزء الأخيرحماية لوجودها و”إنقاذ” ما أمكن من الشيعة وفروعهم المذهبية!
3 – دولة إسلامية شيعية قوامها الرئيس اليوم إيران وتضم جنوب العراق وبعض وسطه، مع إمكانية توسع محدود إلى الخليج. سكانياً، يلجأ معظم الشيعة والعلويين المهجرين وبعض الأقليات إلى مناطق آمنة لهم في جنوب العراق وإيران كما يمكن استيعاب بعض الأقلية الشيعية (التي سيزداد اضطهادها) من أفغانستان وباكستان والخليج.
إيران بعد 10 أو 20 سنة مستقبلاً قد تكون غيرها اليوم. فشلت محاولات التغيير في إيران دخولاً من الباب الرئيسي: إستكمالا لإجتياح العراق عام 2003 أو بالقصف النووي، فهل ينجح الدخول من الباب الخلفي؟ هل تكون إيران الهدف التالي عبر تركيا بعد سوريا والعراق أم أن باكستان أقرب لمناطق الغالبية السنية في إيران؟ ألم تبدأ أحداث هذين البلدين بتظاهرات تطالب بـ”الحرية” و”محاربة الفساد” و”إسقاط النظام” ثم تلتها العسكرة؟ فشلت المحاولة الأولى لتفعيل التظاهرات الواسعة إلى حراك شامل أثناء انتخابات الرئاسة عام 2009. لكن تهيئة الأجواء للحراك التالي لم تتوقف في زمن الهدوء الخادع والمفاوضات “المطمْئِنة” وربما تنتظر الإشارة بأن تحضيرات العسكرة باتت جاهزة! الضغط الإقتصادي الداخلي في إيران على أشُدَّه في حين أن تدريب مجاهدي خلق وتنظيمات أخرى لم يتوقف منذ الإحتلال الاميركي للعراق، مع تموضع كبير في تركيا وباكستان. إيران التي تناسب المشروع الإستراتيجي الطائفي تكون أكثر تجذُّراً في “شيعيتها” والهدف هو إيصالها بالتدريج إلى هذا التموضع.
العقل الشيطاني الذي يبني هذا السيناريو، يفترض أن التوزع الجغرافي والسكاني الجديد يؤمن وضعاً أكثر استقراراً لمنطقة الشرق الأوسط، وحتى مناطق أخرى من العالم.
هذه الكيانات الطائفية الثلاث لن يحتاج أي منها إلى إلغاء الآخر، لا بل يكون لكل منها من التجانس الطائفي الداخلي والموارد الطبيعية والبشرية ما يعزز سعيها لعدم الإخلال بالوضع المستحدث، وأن تقبل به وإن على مضض في البدء، ومع الوقت، تتقبله وتعمل على ديمومته.
هذا السيناريو ليس حكما محتوما. لكن هزيمته لايمكن أن تأتي من الخارج، بل من قوى داخلية ترتقي إلى مستوى المواجهة، متجذرة في شعبها وتتسلح بالعدة الفكرية والتنظيمية والعسكرية التي تمكِّنها من التفوق على المقدرات الهائلة الموظفة لإنجاز هذا المشروع الطائفي على مدى العقود الآتية.
بقلم:أديب الزين