بالتأكيد، ما جرى في طرابلس كان جولةً أو معركةً وليس حرباً. وقد إنتهت المعركة هناك، للمرة المئة. لكنّ الحرب مستمرة، وهي ليست محصورة بطرابلس. إنها تمتدُّ من العمق السوري إلى عكار فالهرمل وبعض البقاع الغربي والجنوب، وهي حربٌ طويلة الأمد، لأنها حربُ خرائط.
كانت معركة طرابلس وكأنها معركة «الوقت المستقطع» في لعبة عرسال- القلمون. وسبق لقائد الجيش العماد جان قهوجي أن كشف الترابط بين أحداث عرسال وعكار وطرابلس: «داعش» تخطّط ليكون لها منفذ بحري. ولذلك، قاتل الجميع في الشمال وعينُه على عرسال.والمعلومات التي رشحت عن التحقيق مع أحمد ميقاتي تصبّ في السياق إياه: إعلان «ميني إمارة» إسلامية بين طرابلس وبعض المنية، ثمّ التمدّد صوب عكار وجرود الضنّية وفتح طريق إلى الهرمل، أي عرسال.
وهذا الأمر سيتيح الصمود لـ«إمارة طرابلس»، مدعومةً بمنفذها البحري القادر على تلقّي الدعم اللوجستي. ويمكن أن تستفيد عرسال من هذا الدعم، خصوصاً مع إقتراب فصل الشتاء، وفشل «داعش» و«النصرة» في تأمين خط إمداد آمن، بعد إنقطاع الطرق الجردية بالثلوج.
لذلك، يُطرح السؤال: هل هو الجيش مَن أراد القيام بمعركة إستباقية في طرابلس، لكشف الخلايا وضربها وإحباط مخططها، أم هما «داعش» و«النصرة» أرادتا إلهاء الجيش في طرابلس لتنفيذ خطوات في عرسال، أو لإضعافه وكسر شوكته، فيما تلعبان لعبة إبتزاز أخرى من خلال العسكريين المخطوفين؟ في أيّ حال، يبدو أنّ «داعش» فشلت في الإستيلاء على طرابلس والشمال، ولكن هل أحبط الجيش هذا المخطّط نهائياً؟
معظم المتابعين يؤكدون أنّ ما جرى ليس جولة من جولات كثيرة متوقعة.
فالجيش دخل إلى طرابلس في ظلّ تسوية شاركت فيها فاعليات طرابلسية، وركيزتها «عدم الإفراط في ممارسة القوة». وهذا يعني أنّ العناصر المرتبطة بالتنظيمات قد تعود إلى الشارع في أيّ لحظة كما حدث مراراً، على مدى سنوات.
وأساساً، لم يكن الجيش في صدد مواجهة حاسمة في طرابلس، في المعنى العسكري للكلمة. فالدخول إلى أوكار الإرهابيين سيعني مجزرة يكون ضحيتها أبناء طرابلس وتدمير ممتلكاتهم. وهذا ما لا يمكن أن يفعله الجيش. وهو لو أراد إعتماد منطق الحسم بأيّ ثمن، لما كانت لديه مشكلة في عرسال اليوم.
لكنّ بعض الذين يريدون للجيش أن يحسم المعركة في طرابلس هم أنفسهم مَن أرادوه ولا يريدونه أن يحسم في مناطق أخرى، والعكس صحيح. وهؤلاء أنفسهم يريدون أن ينأى الجيش عن تورُّطهم في الحرب السورية ولا يرحم المتورِّطين الآخرين. وهذه هي مشكلة التعاطي مع الجيش الذي لا يحتاج إلى القوة العسكرية، بل إلى القرار السياسي.
والخطِر في معركة طرابلس الأخيرة ليس حجمها، بل طبيعتها. فهي لم تعد معركة «قادة المَحاور» أو «زعماء الزواريب» بين باب التبانة وبعل محسن. فهؤلاء أنفسهم، على المحاور إياها، باتوا اليوم جزءاً من دينامية «داعش»، ومعهم سوريون. وإذا إندلعت جولات أخرى، وفق المرجَّح، فسيكون العامل «الداعشي- النصراوي» أكثر تأثيراً. وسيكون أهل طرابلس والشمال وسائر السنّة اللبنانيين في موقع الإحراج الشديد.
وهناك سيناريو يجري تداوله منذ بداية الحرب السورية، يقضي بوجود رغبة لدى «حزب الله» بالسيطرة على كامل المنطقة اللبنانية المحاذية للحدود مع سوريا- أي عكار والبقاع بكاملهما- لتكون منطقة نفوذه ملاصقة للمنطقة التي سيبقى النظام مسيطراً عليها من الساحل السوري إلى حمص فالقلمون ودمشق.
وهذا السيناريو، تحاول «داعش» و»النصرة» إحباطه بالسيطرة على القلمون والبقاع الغربي وخرق جرود الهرمل لبلوغ المناطق السنّية في عكار والضنّية، إمتداداً حتى طرابلس. ومع تصادم المشروعين، ستبقى التطوّرات العسكرية مفتوحة.
وعلى الأرجح، يقول المحلّلون، ليس هناك مجال لينتصر مخطط «داعش». وفي الجولات المقبلة من الحرب السورية- اللبنانية المشترَكة، على بقعة القتال المنزوعة الحدود، ستنفجر عرسال وطرابلس مجدداً، وعلى الأرجح ستنفجر مناطق أخرى، إلى أن تستقرّ الخرائط وفق ما هو مرسوم لها أو هي قيد التحضير.