أثبتت مقولة «قوة لبنان في ضعفه» صحتها وصوابيتها، لأنّ أيّ استقواء فعليّ هو استقواء على الداخل لا الخارج، ليس لأنّ لبنان عاجز عن بناء قوة عسكرية مهمة، إنما لأنّ القوة الفعلية تكمن في وحدة اللبنانيين على خيارات وطنية مشتركة، فيما أقوى جيش في العالم لا يستطيع حماية دولة منقسمة ومشرذمة ومشتتة.
إنّ مكمن ضعف مقولة «قوة لبنان في ضعفه» يكمن في شكل هذه المقولة لا جوهرها، وتحديداً لجهة مصطلح الضعف، حيث أنّ أحداً لا يستسيغ التسليم والإقرار بأنه ضعيف، وبالتالي الدفاع عن مبدأ الضعف يضع صاحبه في موقع المدافع والمبرّر، لا بل في موقف ضعف، علماً أنّ المقصود كان أنّ التركيبة اللبنانية المتعددة تفرض الابتعاد عن النيران والنأي بالنفس إلّا في حالة واحدة وهي اتفاق كل المجموعات اللبنانية على توجّه مشترك سلماً أو حرباً.فالمقصود في جوهر مقولة «قوة لبنان في ضعفه» هو الدعوة إلى تحييده، ومردّ هذا التحييد ضعف تركيبته لا شعبه، وهذه حقيقة لا يمكن التغاضي عنها، ولكن ضعف بنيته يشكل في الوقت نفسه مصدر قوته، لأنّ هذا الضعف يستدعي تحييده عن مشاكل المنطقة وإبعاده عن صراعات المحاور الخارجية، الأمر الذي يُجنّبه تداعيات الصراعات الخارجية، والتحييد المقصود هو من طبيعة عسكرية لا سياسية.
والتمييز بين ضعف التركيبة اللبنانية وقوة الشعب اللبناني ضروري جداً، لأنّ هذا الشعب أظهر بكلّ مكوّناته قدرة استثنائية على القتال والمواجهة والصمود في مراحل تاريخية مختلفة، والمقصود بقوته قوة الجماعات المكوّنة للبنان وليس قوته كشعب موحد، فيما التركيبة المجتمعية-السياسية كانت تهتزّ أو تنهار عند حدوث أيّ تطور خارجي، وهذا طبيعي نتيجة تنوّعها وتعددها واختلاف هواجس طوائفها.
فقوة لبنان ليس في «مقاومته» ولا في قدرته على فرض توازن رعب مع العدو أو «الشقيق»، خصوصاً أنّ هذا التوازن، عَدا عن كونه مستحيلاً، هو وهم، ليس فقط لكونه مستحيلاً، بل لأنّ لا إسرائيل ولا النظام السوري بإمكانهما اجتياح لبنان من دون عذر أو سبب، ومن دون غطاء دولي أو غَضّ نظر دولي. فالأمور ليست بهذه البساطة، والتجربة مع 1701 أكثر من ناجحة.
وتصوير أنّ تل أبيب تنتظر اللحظة التي يسلِّم فيها «حزب الله» سلاحه للانقضاض على لبنان، الهدف منه إبقاء السلاح بيد الحزب إلى ما لا نهاية بذريعة توازن الرعب، فضلاً عن الاستخفاف بالدولة والشعب اللبناني والمجتمعَين العربي والدولي.
كما أنّ التجربة مع اتفاق الهدنة أكثر من ناجحة، وهذا الاتفاق أسقطه لبنان بنفسه مع توقيعه اتفاق القاهرة الذي سمح للفلسطينيين باستخدام أرضه كمنصة «لتحرير فلسطين»، الأمر الذي لم يسمح به نظام الأسد في سوريا.
فالتصدي لإسرائيل يكون أفعَل وأقوى من مربّع وطني لا مذهبي ولا فئوي، وتل أبيب لم تدخل إلى لبنان إلّا نتيجة انقسام اللبنانيين والسماح باستخدام أرضهم، والنظام السوري لم يدخل إلى لبنان إلّا نتيجة للانقسام نفسه، فيما لم يخرج سوى بعد أن توحّد اللبنانيون في مشهد استثنائي في 14 آذار 2005.
وإذا كان التحييد شكّل مطلباً لبنانياً تاريخياً ترافَقَ مع ميثاق 43 نتيجة انشداد مشاعر المسيحيين إلى الغرب والمسلمين إلى الشرق، واستمر مع نشوء دولة إسرائيل خشية تحويل لبنان إلى ورقة بيَد القوى الإقليمية كما حصل بعد العام 69، فإنّ التحييد اليوم أصبح ضرورياً أكثر من أيّ وقت مضى بفِعل الصراع السعودي-الإيراني والسني-الشيعي، هذا الصراع الذي تتحمّل طهران و«حزب الله» مسؤوليته، خصوصاً مع قتال الحزب في سوريا الذي أدخل لبنان في دوامة من العنف والتشنّج والتوتر المذهبي الذي قد يمتد لسنوات وعقود، ويجرّ لبنان إلى الهاوية مجدداً.
ويكفي مراجعة الوضع المأسوي الذي دخله لبنان منذ فتح حدوده للمقاومة الفلسطينية، والتي استدعت تدخّلاً سورياً وإسرائيلياً وإيرانياً. ومع خروج هذه المقاومة في العام 1982 والجيش الإسرائيلي في العام 2000 والجيش السوري في العام 2005 لم يبق سوى التدخل الإيراني الذي يَتمظهَر من خلال «حزب الله»، والذي لن يسلم سلاحه الإقليمي، ويا للأسف، قبل أن تتفق طهران مع الغرب والقوى الإقليمية الأخرى على حجم دورها وحدوده في منطقة الشرق الأوسط.
وقد أثبتت التجربة أنّ أيّ سلاح خارج الدولة سيُبقي مسببات الأزمة اللبنانية قائمة من استدراج حروب خارجية إلى تغييب التوافق الداخلي واستطراداً الاستقرار الأمني والسياسي. وكلّ العلاجات والتسويات التي أبرمَت منذ العام 2005 كان الهدف منها واحد: تجنّب الحرب الأهلية.
فالخلفية الأساسية لتأليف حكومة الرئيس تمام سلام، على سبيل المثال لا الحصر، كانت منع عودة هذه الحرب، وهذه الخلفية ما زالت نفسها اليوم في ظل المعارك التي يخوضها الجيش اللبناني في مواجهة المسلحين في الشمال، ولا بل بتصميم أكبر واحتضان أوسع من المملكة العربية السعودية التي وضعت ثقلها المعنوي والمادي بتصرّف الحكومة لمواجهة الإرهاب، إلى المجتمع الدولي الذي أنشأ تحالفاً واسعاً للقضاء على هذه الظاهرة، وهذا المجتمع الذي لم يسمح بسقوط كوباني، لن يسمح بسقوط لبنان.
وعلى رغم كل الملاحظات السياسية التي تُسجَّل على الحكومة وعلى الوضع العام الذي يسمح بصيف وشتاء تحت سقف واحد، الأمر الذي أوصلَ إلى الخلل الراهن وسيُبقي الوضع غير مستقر، إلّا أنّ كل القوى السياسية، من دون استثناء، تقف صفاً واحداً وراء الجيش اللبناني، لأنّ أيّ انهيار للوضع شمالاً يعني انهياراً لمنطق الدولة وهَيبتها وسلطتها، الأمر الذي لا يمكن السماح ولا التهاون به، باعتبار أنّ تفكّك الدولة يعني سَورنة الوضع اللبناني وعَرقنته، أو بكلّ بساطة عودة الحرب الأهلية.
وقد أثبتت التجربة أيضاً أنّ لبنان، المُنخرِط في صراع المحاور، هو لبنان الضعيف والمُفتّت والمقسّم والمشرذم والمُفكّك، فيما لبنان المُحَيّد عن صراع المحاور، هو لبنان الموحّد والقوي والمتماسِك والمستقر والمزدهر.
وما لم يُصَر إلى تحييد لبنان وتثبيت مبدأ الدولة أوّلاً ونقل الصراع من مواجهة حول خيارات كبرى إلى مواجهة حول تطوير الدولة وتحديثها، فسيبقى لبنان ساحة مفتوحة على الحروب والانقسامات والتشرذم وعدم الاستقرار. فقوّة لبنان هي فقط في تحييده.