ليس مستغرَباً ما يحدث في الشمال، ولا ما حدث في عرسال وسائر البقاع، ولا ما يمكن أن يحدث في بيروت وصيدا- عين الحلوة. المستغرَب هو ألّا يشتعل البرميل السنّي في لبنان، فيما اللاجئون السوريون يمدّونه بالوقود، وتتكفَّل الحدود المفتوحة للمقاتلين وشُذّاذ الآفاق، ذهاباً وإياباً، بإستيراد الشرارة لإستخدامها في أيّ لحظة.
قد تكون الحالات المتطرِّفة أو الإرهابية شذوذاً في مؤسسة الإعتدال السنّي التقليدي في لبنان. ولكن يجب الإعتراف بأنّ شيئاً ما يتغيَّر لدى بعض السنّة، وهو سيمضي في التغيُّر، في معزلٍ عن الأسباب والمبرِّرات.قبل أشهر أو عام، لم يكن هناك في تكتل الإعتدال السنّي، الذي تقوده الحريرية السياسية، مَن يَنظر إليه الخصوم كمدافعٍ عن ظاهرة «داعش» أو مُبرِّرٍ لها، كالنائب خالد ضاهر. ولم يكن هناك، بين رجال الدين السنّة المعروفين، مَن يدعو إلى «الجهاد ضدّ الجيش» كداعي الإسلام الشهّال.
ولم يكن ممكِناً حشد إستعراضٍ مسلّح ضدّ الجيش في طرابلس وحدها (لا نهر البارد)، بقيادة «داعش» وأخواتها، في حدود 200 رجل. وربما، بعد أشهر أو سنة أخرى، سيكون الأمر أسوأ بكثير، إذا لم تتبدّل ظروف المواجهة المفتوحة الحدود من شرق المتوسط إلى إيران.
يرفض بعض النخبويين السنّة، عن حقّ، نعْتَ السنّة بالتطرُّف. ويقولون: السنَّة هم حاضنة الإعتدال اللبناني، بأحزابهم وسياسييهم ورجال دينهم، ولكن- وفق ما يقول زياد الرحباني- «الحارة بيسَكِّرْها ولد»! ولعلّ هذا التوصيف هو الأكثر علميّة وموضوعية.
ولكنّ الخطر يكمن في أنّ «الحارة التي يسكِّرها الولد»، في غياب الدولة، غالباً ما تبدأ بالتحوُّل داخلياً. وفي المنطق السيكولوجي، سرعان ما ينجذب بعض سكان الحارة إلى «الولد» إقتناعاً به أو رغبة بالإحتماء أو الإستقواء، أو لمجرّد تأمين المصالح. وهكذا، تصبح الحارة أسيرة، فيقودها «الولد» إلى حيث هو يشاء، أو يشاء الذين يقودونه.
وهنا، يبرز الخوف من «داعش» على الشمال. ففي هذه الحال، لا يعود السؤال عن وجود البيئة الحاضنة أو عدم وجودها ذا جدوى. والدليل هو النماذج المختلفة في البيئات والطوائف اللبنانية منذ العام 1975.
فالمناطق المسيحية والدرزية «تعسكرت» كلها في بعض المراحل. والبيئة السنّية عسكرها الفلسطينيون في بعض المراحل والمناطق. والبيئة الشيعية كلها هي اليوم في كامل «عسكرتها». وليس مؤكداً أنّ البيئات الحاضنة توافرت أو هي متوافرة في كل هذه الحالات، ولم يعد مجدياً طرح السؤال. لكن المهم هو أنّ البلد اقتيد إلى الخيارات التي أرادها النافذون في كلّ طائفة، وقد كان معظمهم مرتهَناً لمرجعيات خارجية.
وإذا كانت «داعش» تُخطِّط لإعلان إمارة إسلامية في طرابلس والشمال- وفق تأكيد قائد الجيش العماد جان قهوجي- لبلوغ منفَذٍ بحري في عكار، فإنّ ذلك لا يبدو مسألة بسيطة، وسيكون دموياً ومرهقاً ومكلّفاً للدولة والمؤسسات العسكرية والأمنية وأبناء الشمال.
وواقعياً، لا «إمارة» يمكن أن تنشأ على الأرض اللبنانية على الطريقة السورية- العراقية. لكنّ «داعش» وأخواتها ستحاول تنفيذ مخطّطها، ولو بالتقسيط... غير المريح! وهذا ما سيؤدّي إلى وقوع الشمال والبقاع، وربما مناطق أخرى، ولمدّة طويلة، في الفوضى السورية- العراقية.
مَن المسؤول؟
واضح أنّ مسؤولية «8 آذار» مباشرة. فهي التي جاءت بـ«الدبّ الإرهابي» إلى «الكرْم اللبناني». والحكومة السابقة، الـ8 آذارية، باركت تورُّط «حزب الله» وسهَّلت له الطريق، بكامل مؤسساتها وأجهزتها.
لكنّ في «14 آذار» مسؤولين أيضاً. وعندما يقول تيار «المستقبل» إنّ تورُّط «الحزب» هو السبب، ينسى أنه عقد «الحلف الرباعي» معه ومع وسلاحه في العام 2005، وأنه يعقد معه الصفقات الخفيّة والمعلَنة في الإستحقاقات النيابية والحكومية والرئاسية، ولو تحت عناوين المداراة أو الخوف أو منعاً للفتنة المذهبية. واليوم، لا شيء يزعج «الحزب»، في ظلّ حكومةٍ يتولّى الـ14 آذاريون مواقعها الأساسية، بدءاً برئاستها.
عندما يكون هناك «شبه دولة»، ليس مستغرَباً الوصول إلى «شبه إمارة»، في بلدٍ يتّجه سريعاً إلى أن يكون «شبه بلد». وهناك مَن يعتقد بوجود ضوء في نهاية النفق. لكنّ المسافة الدموية المطلوب إجتيازها في الظلام، كيف للبنان الصغير أن يتحمَّلها؟