ما من شك في أن الكلام الذي اطلقه وزير الداخلية والبلديات نهاد المشنوق في نهاية الاسبوع الماضي، واستهدف بشكل او بآخر "حزب الله"، كان مفاجئاً سواء في مضمونه او في توقيته او في أبعاده وتداعياته.
سال حبر كثير عن الدوافع الذاتية والموضوعية التي حدت بالمشنوق الى فتح أبواب هذا السجال مع تنظيم شكّل هو جسر علاقة الحد الأدنى معه خلال الأشهر الماضية، وتحديداً منذ اللحظة التي استدعي فيها المصورون لالتقاط صورة المسؤول عن لجنة الارتباط في "حزب الله" وفيق صفا وهو يشارك في اجتماع قادة الاجهزة الامنية في مقر وزارة الداخلية للتنسيق بشأن مسألة عبور قوافل اغاثة الى بلدة الطفيل اللبنانية الداخلية في عمق الجغرافيا السورية.
البعض ادرج هذا التصعيد في خانة انه أمر كان لا بد منه في لحظة صعود التوتر في العلاقة بين طهران والرياض، اي أنه صرم موحى به لحبل التواصل الرفيع بين "تيار المستقبل" والحزب.
وثمة من أدرجه في منحى ان الوزير المشنوق الذي له قصب التميز في انتقاده الحاد لـ"داعش" ومَنْ والاها ولفّ لفّها في الداخل اللبناني، ولا سيما بعد تكرار التصويب على الجيش وقتل عدد من عناصره، كان لا بد له من ان يقيم توازناً في خطابه فيوزع انتقاداته بين الارهاب وممارساته والحزب وسلوكه، لا أن يمضي قدماً في التهجم على فريق واحد وهو أمر يجافي مزاج القاعدة "المستقبلية" وتوجهاتها في هذه المرحلة.
ولا شك أيضاً في أن هناك من يرى الحدث من زاوية أخرى وهي ان وزير الداخلية أقدم على ما أقدم عليه لأنه يريد حرف الانظار الشاخصة نحو "تيار المستقبل" طالبة منه موقفاً حازماً ومحمّلة قاعدته المسؤولية بعد تكرار الاعتداءات على الجيش في مناطق هي أولاً وأخيراً محسوبة على التيار الأزرق، خصوصاً بعدما سقطت سريعاً ذريعة ان مجموعات محسوبة على "حزب الله" هي من يمارس فعل الارهاب المتكرر على الجيش ولا سيما في طرابلس. وعليه فان أصحاب هذه الرؤية، وبينهم من هو في "حزب الله"، يعطون ضمناً أسباباً تخفيفية للوزير المشنوق من منطلق انه مكره على الادلاء بهذا الموقف، ولكنه لا يريد ان يذهب الى الحد الأقصى في عملية القطع مع صاحب الراية الصفراء، لذا فإنه انتقى بعناية مهنته الأصل كلمات خطابه في الاونيسكو ووسمها بمرونة ووضعها في موضع انتقاد، ليس الحزب وحده بل مخابرات الجيش أيضاً، اي انه شاءها ان تكون قضية أمنية ذات بعد وطني.
وانطلاقاً من ذلك، لم يشأ الحزب الذهاب بعيداً في الرد على المشنوق، فاكتفى بما أتى على لسان الوزير محمد فنيش من رفض للمساواة بين ما يسجل من أحداث واعتداءات في مناطق نفوذ "المستقبل" وتلك التي تجري في معاقل الحزب ولا سيما منها البقاعية. لذا وُجد في بعض الاوساط من يزعم بأن ثمة فهماً غير مباشر بين الطرفين على الحدود الضيقة للمشكلة، واستطراداً على الا يكون فاتحة كسر لمزراب العين اي لتوترات أكبر داخل الحكومة مقدمة لإعادة وصل ما انقطع ورتق ما انفتق بين الجهتين.
واذا كان ثمة من يعتبر ان المناخ المشحون بالتوترات والسجالات لم يعد يؤثر فيه سجال وتوتر بالزائد او بالناقص، فان هناك من ينطلق من الحدث نفسه ليتوقف بامعان أمام تجارب التحاور والتلاقي وجسور العلاقات، حاضراً وتاريخاً، بين "المستقبل" والحزب، ولماذا تُمنى دائماً بالتعثر وهي في بداياتها ولا تصل الى خواتيمها المرجوة كشرط لازم وجوهري لتخفيف حدة الاحتقان الداخلي، وتفتح الابواب الموصدة أمام تجربة سياسية وشركة من نوع هادئ. والتجربة بدأت، كما هو معلوم، بالتحالف الرباعي مروراً باتفاق جدة الذي ابرم عام 2007 بين الخليلين (علي حسن خليل وحسين الخليل) والرئس سعد الحريري وما بينهما من محطات هامشية أخرى. ولم يعد خافياً ان البعض عقد رهانات ضمنية على العلاقة التي بدأت قبل فترة، انطلاقاً من اعتبارات عدة أبرزها:
- إن ثمة مرحلة جديدة بدأها "تيار المستقبل" لحظة قبل بالشركة مع الحزب في حكومة واحدة متجاوزاً شرط الحزب من الميدان السوري المشتعل. ومع ان الرئيس الحريري افتى للأمر تحت شعار أنه نوع من ربط النزاع، فإن الحزب ادرجه في حدود التنسيق الذي تقتضيه موجبات الشركة الحكومية، فان هناك من ذهب بعيداً في ظنونه ورهاناته على امكان تطور العلاقة المستجدة بين الحزب والمشنوق، لا سيما ان الأخير شاء من البداية اعطاء انطباع عن نفسه بأنه آتٍ الى الحكم وهو يحمل رؤية مختلفة في الحكم والعلاقة مع الآخر خصماً وحليفاً، فضلاً عن طموحه في الارتقاء في مدارج السلطة والحكم.
- ثمة من رأى ان "طحشة" الارهاب نحو لبنان واستفاقة العالم كله على خطورة تنظيم "داعش" المتمدد بسرعة صاروخية، هي سبب اضافي لاستدامة التنسيق بين الطرفين واتساع مساحته، خصوصاً ان الحزب يخوض عملياً حرباً مع "داعش" والارهاب، فيما زعيم "المستقبل" قدّم نفسه أخيراً شريكاً في الحرب على الارهاب، ولا سيما بعد اعلانه المتكرر عن رفضه اعتبار السنّة في لبنان بيئة حاضنة له. الواضح ان الحزب لم يكن إلا مرتاحاً لهذا التقدم في العلاقة مع "المستقبل" وكان يطوي صدره على طموح الى ان يكون مقدمة لتهدئة تخفّض منسوب التوتر والاحتقان وتمهّد لعهد جديد مستقبلاً من التنسيق المفضي الى أبواب أوسع. لكن الجلي ان المشكلة هي عند "المستقبل"، اذ انه وفقاً لتقديرات دوائر التحليل في الحزب أعجز من المضي قدماً نحو اي لون من ألوان العلاقة مع الحزب لاعتبارات وحسابات أبرزها:
1- ان "المستقبل" صيّر الحملات ضد الحزب مادة اساسية من مواد خطابه وعنصر جذب لجمهوره، خصوصاً ان جذور الأمر تضرب لسنوات عدة خلت.
2 – ان "المستقبل" ظل أسير عقدة شعار الاعتراض الذي رفعه على انخراط الحزب في الميدان السوري واعتباره حائلاً دون تطور العلاقة او تحسينها مع الحزب.
3 – ان ثمة تجاذبات خفية داخل الصف القيادي في "تيار المستقبل" تعوق اية تفاهمات او عمليات تهدئة قد تبادر اليها هذه الشخصية او تلك حيال الحزب. وفي كل الاحوال، فان كلام المشنوق لا يعني انه عبارة عن عاصفة في فنجان لا ينبغي التوقف عنده، ولا يمكن اعتباره قطعاً نهائياً لخيوط العلاقة بين الطرفين، بل إن المشكلة تظل أبعد من ذلك.